هذه ليست المرّة الأولى التي تثير فيها مادة من نتاج المخرج شربل خليل ضجّة وتُشعل "نيراناً". قبل "الهمروجة" الشرسة التي تحصل راهناً بسبب حلقة "دمى كراسي" التي تناولت قضية الإمام موسى الصدر وما تبعها من اعتداءات على مكتب قناة الجديد، تاريخٌ طويل من "العواصف" الواقعية والافتراضية، الطبيعية وغير الطبيعية، العابرة والعاتية...ولسان حال خليل ما زال "يا جبل ما يهزّك ريح"!
تحفظ شاشات التلفزيون صوت خليل وتعرف وجهه منذ أكثر من عشرين عاماً. يحمل ألقاباً عديدة بما فيها الكاتب، معدّ البرامج، السينمائي، المخرج المسرحي، مؤسس شركة كوميديا للإنتاج Comedy’s Production، وتبرز في "أرشيفه" التلفزيوني برامج كوميدية وانتقادية ساخرة مثل "S L CHI"، "عرض نشرة الأخ بار"، "طقّ رير"، "تعليق سي قاسي"، "بسمات وطن"، "دمى قراطية" الذي كان يُعرض على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال ثمّ انتقل إلى الجديد باسم "دمى كراسي".
التلاعب على الجناس اللفظي في عناوين برامجه، ميزة وبصمة خاصة. لكنّ اللعب في حقول الألغام السياسية والاجتماعية دونه مصاعب ومخاطر وعواقب جمّة ما انفكّ خليل يعايشها ويحاول تدجينها.
وإذا كانت CV خليل توّثق، ومن دون أدنى شكّ، أنه إنسان مبدع، مثابر، جريء، رؤيوي، ذكي، وطنيّ، حالم، فإنها أيضاً تفضح صفة "المشاكس"، وربما الأصحّ: "المشكلجي"، من خلال محطات "مثيرة للجدل" طبعت مسيرته وخلقت له أعداء ومنتقدين ومحرّضين على هدر دمه!
على سبيل المثال، لم يتردد خليل في العام 2004 بتركيب مقلب وقع في مصيدته قسمٌ كبير من الجمهور، وتمثّل بإضافة "ملحق إخباري" إلى احدى حلقات "بسمات وطن" حيث أطلّ الإعلامي بسام بو زيد (ما أضفى طابع الجديّة رغم إدارج كلمة LIE على الشاشة بدلاً من LIVE) ليعلن أن الأجهزة الأمنية قبضت على شخصيّة غير لبنانية هامّة. وبعد توالي "الفلاشات" أعلن العثور على أسامة بن لادن مختبئاً في مطبخ منزل الرئيس عمر كرامي في طرابلس، ليطل الجنريك النهائي حاملاً ضحكات الممثلين المشاركين! مقلبٌ أثار الكثير من ردود الفعل الساخطة باعتباره انه تلاعب بأعصاب اللبنانيين وبأمنهم ومسّ بكرامة سياسيّ بارز.
الإعتذار الأول
لم يتوان خليل أيضاً عن تجسيد شخصية القديس مار مارون، شفيع الطائفة المارونية، في تصميم واضح على كسر "تابوهات" الدين ورجاله! لكنه في العام 2006، "تجرأ" على تقليد الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله ، فكان ما لم يكن بالحسبان من تظاهرات وقطع طرق وحرق إطارات ومطالبات بالاعتذارات وإيقاف الحلقة وحتى البرنامج ككل. كادت تلك الحلقة آنذاك أن تتسبب بإشعال حرب داخلية، وللمفارقة أنه كان لرئيس المجلس الوطني للاعلام عبد الهادي محفوظ رأي مماثل لموقفه من حلقة الإمام الصدر الأخيرة، اذ طالب "المؤسسة اللبنانية للإرسال" بتقديم اعتذار فوري، معتبراً انها وقعت "في مخالفة للمادة السابعة من قانون المرئي والمسموع التي تنص على ضرورة الحفاظ على النظام العام والمصلحة العامة اللبنانية"، و"ان السيد حسن نصرالله خصوصية لكونه مقاماً دينياً له اتباع، وقانون المرئي والمسموع لا يجيز التعرّض لهذه المقامات (...) ولا يمكن المساواة بين رمز المقاومة وأي سياسي وأي رئيس". على أي حال، خمدت تلك "النيران" مع إصدار بيانا اعتذر فيه عن أي اساءة غير مقصودة قد تكون طاولت السيد نصرالله، مؤكدا احترامه الشديد له واعجابه الكبير به، وواعداً بعدم المسّ بالمقامات الدينية مجدداً.
لكن بعد مرور سبع سنوات، أطلّ الممثل جان بو جدعون في حلقة "بسمات وطن" مقلداً السيد نصرالله مجدداً. انتهى عرض الحلقة بطبيعة الحال بقطع الطرق وإشعال الإطارات اعتراضاً على تناول السيّد، فيما تجمّع عددٌ من الشبان في مدينة طرابلس اعتراضاً على ما تضمنته الحلقة من "إساءة إلى الله عز وجل وإلى النبي يونس عليه السلام".
في العام نفسه (2013)، أثار خليل أيضاً سُخط المركز الكاثوليكي للإعلام الذي وجّه كتاباً الى المجلس الوطني للاعلام والى رئيس مجلس ادارة المؤسسة اللبنانية للإرسال معترضاً على "تناول شخصية البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بشكل مثير للسخرية"، وهو الذي له "قيمة روحية ووطنية ومعنوية كبيرة بالنسبة الى الكنيسة ولبنان".
وفي العام 2015، تقدّمت دار الفتوى بناءً على توجيه من المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان بشكوى ضد خليل وأخرى مقدّمة من المحامي طارق شندب بصفته موكلاً عن 70 شخصية دينية ومدنية على خلفية إعادة نشر «ريتويت» خبر على «تويتر»، كانت قد تداولته مواقع إخبارية بعنوان «غرفة خاصة للنكاح الشرعي "جهاد النكاح"، يتضمّن صورة لإمرأة تغطي جسدها من الأعلى، وتكشف عن ساقيها، أثناء جلوسها على سرير مغطّى بعلم تنظيم "داعش".
عنصرية وشماتة!
لم يكن العام 2016 بدوره خالياً من الاعتراضات والانتقادات التي لحقت بالمخرج شربل خليل، ففي بدايته اتُهم الرجل بالعنصرية وبالشماتة من ضحايا الحرب، وعوقب على "السوشيل ميديا" لتحويله الجوع مادة للسخرية. آنذاك، كان خليل قد نشر صورة لمجموعة من الأشخاص من أصحاب البشرة السمراء في أفريقيا، معلقاً (على حصار مضايا السورية):"رئيس بلدية مضايا المحاصرة وأعضاء المجلس البلدي في آخر صورة لهم! اين الضمير؟".
وأيضاً في سياق اتهامه بالعنصرية والتمييز، أثار أحد اسكتشات برنامجه "بسمات وطن" غضب كثيرين ممن رأوا انه تخطّى كلّ الخطوط الحمر، وقد تضمّن ذلك "السكتش" قصة فتاة لبنانية تبكي لأن حبيبها تركها، فيخبرها والد الشاب أنه هو من طلب منه ذلك لأن علاقة ابنه بها مكلفة جداً. ثمّ يأتي حبيبها السابق ومعه فتاتان سوريتان، في محاولة للقول بأنه يمكن الشاب اللبناني أن يخرج مع فتاتين سوريتين، لأنهما "أوفر".
ومن السوريين إلى الفلسطينيين، كثرت الجدران التي باتت تفصله عن شريحة من المتابعين المنتقدين والمخالفين لرأيه و"كوميديته" مع موقفه من موضوع عين الحلوة، وأغنيته التي قالت بصراحة: "جدارك عين الحلوة/ واقف رح يبقى وعايش/ تَ يحمينا من بلوة/ اسما ارهاب وداعش".
ربما هذا غيضٌ من فيض المحطات المثيرة للجدل التي طبعت مسيرة المخرج شربل خليل المهنية. لكنها، وإن وضعت في خانة "الهفوات" والسقطات من قبل البعض، إلا أنها لا تعفيه من حمل لقب "ظاهرة الابداع الفريدة من نوعها" ولا من صفة "المشاكس المتميّز" ولا من نزعة "الانتحارية" من أجل الحريات وأحلام الأوطان. الأهمّ أنها ما زالت تذكّرنا، من حين إلى آخر، بحق الحرية في التعبير، وبقدسية الفنّ والإعلام. وما زالت تذكرنا، للأسف، بأن بعضنا في لبنان، دمى. وبأن بعضنا في لبنان يحارب البسمة بحجر أو بشريط لاصق على الأفواه، فلا يعرف الاعتراض بشكل سلمي ان مسّ بتجريح. وهذا زمن بائس.
"العوافي... للحريات"