كتب السفير الفرنسي في لبنان ايمانويل بون في أطروحته الجامعية حول القوانين السورية ما يلي: "إن نظام الاستثناء القضائي المبني من قبل حزب البعث أسس لعدالة سياسية تهدف إلى الحلول مكان التشريع القضائي في كل حقول النشاط الاجتماعي ووفق التقييم الشمولي للسلطة التنفيذية". نال على أطروحته تلك جائزة ميشال سورا، أي جائزة الباحث الموسوعي الذي توفي مريضاً في معتقله بعد خطفه في لبنان عام 1985. سورا مؤلف كتب عديدة بينها "سوريا البربرية"، وزوجته الحلبية الأصل ماري كتبت بعد وفاته اللاإنسانية كتاباً بعنوان "غربان حلب".ش
الواقع أن معظم السفراء الفرنسيين في لبنان كانوا كمعظم السياسيين الفرنسيين يعتبرون سوريا بلداً دكتاتورياً قمعياً. لكن الخارجية الفرنسية كانت حتى فترة قريبة تضم دبلوماسيين درسوا
العربية في سوريا او دول أخرى وكانوا قريبين بعواطفهم من العرب. تغير الأمر الآن. لا بأس، فالعرب هم الذين احتقروا أنفسهم ولا يُلام أحد غيرهم.
حاول آخر السفراء الفرنسيين في دمشق أريك شوفالييه في بداية الحرب السورية القول بان ثمة تضخيماً في المعلومات ومغالاة في الإعلام حول حقيقة ما يجري على الأرض، فتم استدعاؤه وربما تأنيبه. كل صوت معارض لإسقاط الأسد ممنوع. ولأن كل شيء ممنوع فإن الاعلام الغربي تجاهل تماماً مجزرة جسر الشغور بحق أكثر من 180 ضابطاً وجندياً سورياً، على ما يؤكد السفير الفرنسي السابق ميشال ريبمو في كتابه القيِّم «عاصفة على الشرق الأوسط الكبير".
السفير ايمانويل بون المولود صيف عام 1970 يتمتع بمعرفة عميقة بالمنطقة. كان باحثاً في مركز دراسات فرنسي في بيروت ثم دبلوماسياً في طهران والرياض والأمم المتحدة فمستشاراً في إدارة افريقيا والشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية. نظرته الى القضاء السوري اذاً تعكس لا شك مآسي القضاء في دول عاشت نظام الحزب الواحد وكان فيها الأمن والاستقرار أهم من كل شيء وعلى حساب كل شيء، لكنها تعكس أيضاً نظرة فرنسية قديمة مناهضة لسوريا البعث، بالرغم من إعجاب الرئيس فرانسوا ميتران بشخصية حافظ الأسد ودوره وليس بتشدّده.
فرنسا نظرت بالمقابل إلى دمشق على أنها الجسر الضروري للعبور الى لبنان والى دور في الشرق الأوسط والى الشراكة الأوروبية المتوسطية. لولا ضغط حافظ الأسد مثلاً عام 1996 على
الأميركيين ما كانت باريس وجدت لها أي دور في تفاهمات نيسان
الإسرائيلية اللبنانية. ثم أن شيراك نفسه يكشف في مذكراته أنه وحافظ الأسد اختارا الرئيس اميل لحود لرئاسة لبنان، وباريس فتحت إداراتها وخبراتها للرئيس بشار الأسد في مطلع ولايته لتحديث الإدارة السورية. يؤكد شيراك في المذكرات أن حافظ الأسد أوكل إليه مهمة رعاية ابنه قبل وفاته.
سوريا من جهتها كانت تريد علاقة جيدة مع باريس لترسيخ دورها في لبنان ولمقارعة
الأميركيين وكشاهد على سوء إسرائيل. اتفق البلدان على تقاسم النفوذ على الأرض
اللبنانية في ورقة تفاهم شكلت سابقة. صاغها وزيرا خارجيتهما الآن جوبيه وفاروق الشرع في عهد شيراك وحافظ الأسد. لا بل إن الرئيس الديغولي جاء لعند حافظ الأسد يعرض عليه شراكة استراتيجية تضمّ كل شيء سوى التكنولوجيا العالية لأنها تثير إسرائيل وأميركا. قال له بالحرف الواحد إن "الموارنة في لبنان قد خذلوا فرنسا". كان شيراك آنذاك قد بدأ التمهيد للعلاقة المفصلية بالرئيس الشهيد رفيق الحريري. اختلطت في تلك العلاقة المصالح السياسية والمالية.
هذا في التاريخ ماذا عن الحاضر؟
وقعت الحرب السورية، فاعتقدت باريس أن الأسد سيسقط سريعاً، كما حال مبارك وبن علي. هنا بدأت سلسلة الأخطاء التي تحدّث عنها كثيرون وبينهم الكاتب "فريديريك بيشون" في كتابه المهم "لماذا أخطأ الغرب في سوريا" أو الكاتبان جورج مالبرونو وكريستيان شينو في كتابهما الوثيقة "الطريق إلى دمشق" وغيرهم. اعترفت فرنسا بالمجلس الوطني ممثلاً للمعارضة. بادرت الى فتح سفارة للائتلاف. صالت وجالت كثيراً لجمع المال وإرسال السلاح الى المقاتلين. لم تدقق كثيراً آنذاك بهوية هؤلاء المقاتلين القادمين من مجاهل التاريخ والجغرافيا. ليس مهماً مَن سيُسقط النظام، المهم أن يسقط. تبين لاحقاً أن 80 في المئة من السلاح الفرنسي وقع في أيادي الإرهابيين وفق تأكيد المعارض السوري د. هيثم مناع. ليس مهماً ما هي المعارضة. لا بأس أن يصول الإخوان المسلمون ويجولون في فرنسا العلمانية على حساب هيثم مناع وغيره من العلمانيين. المهم أن يسقط الأسد. لكنه لم يسقط. رحل ساركوزي ولم يسقط. قد يرحل هولاند ولمّا يسقط. بينما الإرهاب يطرق الأبواب بقوة. ماذا تفعل باريس؟
حصدت مليارات الدولارت من قطر في عهد ساركوزي ثم مليارات أكثر من السعودية في عهد هولاند.لا فرق أمام الصفقات بين يميني ويساري. لا فرق إن كان المال الذي يراد عبره دعم الديموقراطية في سوريا يأتي من دول ليس فيها برلمانات. ما يصلح لسوريا لا يصلح لغيرها.
لقراءة المقال كاملًا
إضغط هنا
(السفير)