عن شبح التضخّم المفرط في لبنان، يحدّثوننا، فإذا بتقرير "بنك أوف أميركا" يتوقع أن يصل سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى نحو 46500 ليرة نهاية العام الحالي، وكم نشكر له الدقّة في التقدير، في ذكر تلك الـ 500 ليرة إلى جانب 46 ألف ليرة لقاء الدولار الواحد. يجاري تلك التقديرات المرعبة، الإقتصادي الشهير في جامعة جونز هوبكنز "ستيف إتش هانكي" الذي رأى أنّ لبنان سينزلق إلى مرحلة "التضخم المفرط" خلال أسابيع، وأرفق رؤيته بعبارة "لبنان في دوّامة الموت". أهل الحل والربط في لبنان المعنيون بمقاربة الحلول للخروج من المسار الكارثي، مهوسون بنظرية المؤامرة، وربما وضعوا تلك التقديرات في خانة المؤامرة الكونية انقلابًا على "إنجازاتهم" العظيمة، فقضي الأمر بالنسبة لهم. أمّا نحن فئة الشعب الذين نحيا كابوسًا يوميًا يزلزل حاضرنا ومستقبلنا، فنتلقّى تلك التحليلات بمزيد من الأسى والأسف واليأس. والسؤال الأكثر تداولًا في يومياتنا المربكة: كم بلغ سعر صرف الدولار اليوم؟
هذا السعر وعلى عكس توقّعات أولئك "المتآمرين"، شهد في الأيام القليلة الماضية انخفاضًا في سوقه السوداء، فهل سيستمر في انخفاضه متحدّيا الإقتصاديين العالميين والمحلّيين ونظرياتهم، أم سيعاود التحليق؟ وهل من سقف قد يصل إليه؟
الخبير الإقتصادي الدكتور بيار الخوري يلفت إلى أنّ سعر الصرف في بلد كلبنان لا تحدّده العناصر الإقتصادية فقط، لا بل هناك جملة عوامل سياسية استراتيجية ونفسية تلعب دورها في تحديد مصير سعر الصرف، من هنا لا يمكن لأحد أن يحدّد سعر الصرف في المستقبل.
لجهة احتساب سعر الصرف الإقتصادي يلفت الخوري في حديث لـ "لبنان 24" إلى أنّ الوقائع الإقتصادية السيّئة التي ساهمت في استنزاف العملات الأجنبية، ستبقى تحكم الواقع اللبناني المأزوم في الفترة المقبلة، منها أزمة القطاع العام، والعجز في الموازنة وفي الميزان التجاري. "وأمام هذا الواقع لا يمكن لسعر الصرف أن يتوازن على الـ 1500 ، كون مصرف لبنان لم يعد يملك القدر الكافي من الإحتياطي، بما يمكّنه من المدافعة عن سعر الصرف الرسمي. وإذا احتسبنا السعر الإقتصادي على أساس علاقة التضخّم بين لبنان والولايات المتحدة، وأضفنا الفرق عبر السنوات، بناءً على نظرية تَعادل القوة الشرائية، يعني أنّ السعر سيترواح بين 4 و 6 الآف ليرة مقابل الدولار. هذا إذا أزلنا عامل المضاربة والخوف السائد لدى المواطنين من المستقبل. ولكن هل سنتمكّن من إزالة هذين العاملين؟".
إذن السعر لا يعكس في لبنان أسسًا اقتصادية، ومعادلة العرض والطلب لا تتحكّم وحدها في الدولار، فالأزمة السياسية تولّد انعدام ثقة لدى المواطنين، فيقبلون على طلب الدولار، ويا لهم من "متآمرين".
العوامل غير الإقتصادية بنظر الخوري متشعّبة "كالصراع على الجغرافيا اللبنانية، والحصار الإقتصادي المفروض على سوريا وتداعيات قانون قيصر، فضلًا عن أزمة الثقة مع المصارف، والتوقّعات السلبية لليرة اللبنانية في المستقبل، والخشية من حدوث حرب بين لبنان وإسرائيل. كل هذه العوامل تتواطأ مع العنصر الإقتصادي السيء، لتجعل من غير الممكن توقّع مصير سعر الصرف".
ما الذي جعل دولار السوق السوداء ينخفض؟
يعتبر الخوري أنّ هناك أمورًا ظرفية جعلت السعر ينخفض، كوجود السياح، علمًا أن عددهم أقل من المتوقع. وقد ساهمت عودة المغتربين وإدخال العملة الصعبة إلى البلد، بجعل علاقة الطلب بالعرض أقوى، فارتفع حجم المعروض، على عكس ما كان يحصل في الأشهر الستّة الماضية. فضلًا عن لجوء مغتربين إلى استثمار أموالهم في سوق العقارات والشقق، كونهم يمتلكون المال النقدي، ما رفع منسوب القوّة التفاوضية لديهم، وشجّعهم على الشراء بأسعار متدنّية. يضاف إلى ذلك التصريحات التي أدلى بها مسؤولون أميركيون، وفي مقدّمهم وزير الخارجية مايك بومبيو، من عدم ترك لبنان يقع، والعمل على إيجاد السبل لمساعدته.
طبع العملة وتوسيع عمليات ضخّ السيولة بالليرة ساهم في ارتفاع معدّلات التضخّم إلى حدّ كبير، وفيما تغيب الأرقام الرسمية حول حجم التضخّم، توسّع حجم الكتلة النقديّة بالليرة مقابل العملات الأجنبيّة بنحو 429%، استنادًا إلى تقرير "بنك أوف أميركا. وأمام هذه الوقائع رأى الخوري أنّ العناصر الإقتصادية تبقى عاجزة عن إحداث توازن في سعر الصرف "لاسيّما وأنّ كلّ إنفاق الدولة والسحوبات والأموال التي تصل عبر شركات التحويل، يعمل مصرف لبنان على طباعتها، وبالتالي تفلّتت الكتلة النقدية بالليرة، وستشهد مزيدًا من التفلّت شهريًا بسبب دفع رواتب القطاع العام التي تقدّر بـ 750 مليار ليرة شهريًا. وبالخلاصة هناك سيولة كبيرة مقابل تراجع في العرض، والرفوف الفارغة في السوبرماركات ترمز إلى ذلك. فالمعضلة تكمن بأنّ المطلوب أعلى من المعروض".
يردّد رجال الإقتصاد في لبنان وخارجه أنّ وقف المسار الإنحداري الكارثي لمجمل المشهدية المالية المأزومة، يحتاج إلى استعادة الثقة المفقودة بالدولة والمصارف على حدّ سواء. ومسار استعادة الثقة يبدأ بالإصلاحات الجريئة الحقيقية التي باتت معلومة للقاصي والداني. عدا ذلك دوران بالحلقة المفرغة، وتسريع الخطى نحو قعر الهاوية. وعندها لا سقف لجنون الدولار، والرقم الذي وضعه "بنك أوف أميركا" قد يصبح تفصيلًا أمام سوداوية الحاضر والمستقبل. بالمقابل فرصة الإنقاد ما زالت متاحة، والجهات المانحة مستعدة لمساعدتنا، وتناشدنا أن نساعد أنفسنا، فهل يتدارك أهل الحكم مسؤولياتهم الوطنية قبل فوات الآوان؟