الاستنساخ العلاجي.. يُعلن فجراً طبّياً جديداً

يُتابع البشر، منذ قرون طويلة وتيرة التقدُّم الزمني والعلمي ويُراقبون التطوُّر التكنولوجي ويستفيدون منه من كلّ جوانبه. ففي أواخر القرن الماضي، مَن كان ليحلم أنه سيملك هاتفاً خاصاً به؟ أو بإمكانه التواصل مع أدغال العالم ومجاهله بسرعة البرق من خلال الشبكات العنكبوتية؟ أو يخضع لجراحة قلب وفي اليوم نفسه يغادر المستشفى؟ في الواقع، إنّ كلَّ اكتشاف علمي أو اختراع حديث لم يكن "ابن ساعته"، بل تطلَّب وقتاً طويلاً وجهوداً وسهراً حتى طلوع الفجر. والهدف؟ إسعاد البشرية ورفاهيّتها وتأمين استمراريتها... وما تجارب الاستنساخ الا لتُكمل مسيرة الإكتشافات. فهل يحلّ الاستنساخ العلاجي المشكلات الصحية التي تسببها الأمراض التي لا علاج حالياً لها؟ وهل سيضع حداً للعقم وتأخّر الإنجاب؟ الإجابة مع الدكتور حسّان سعيِّد، الباحث في علم المناعة في مركز أبحاث العلوم والتكنولوجيا التابع للمعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية.أعلن منذ فترة، مركز للأبحاث عن توليد أوّل «زيغوت» او لاقحة بشرية، تُنتَج من خلال تقنية الاغتراس النووي Nuclear Transplantation، أو ما يُعرف بالاستنساخ. ومع أنّ ما توصل إليه المركز، ليس سوى تقدّمٍ بطيء إلّا أنه يبشّر بآمال كبيرة. إذ بعد مشاق وسعي حثيث، أوضح مصدرٌ تابع للمركز، أنهم كانوا يأملون في أن يحالفهم الحظ فينجحون في «إغراء» أجنَّة مبكرة، لتنقسم إلى كرات يتكوَّن كلّ منها من نحو مئة خلية. وكان الهدف، عزل خلايا جذعية Stem Cells بشرية تصلح لتَكون المخزون الأولي لإنماء خلايا عصبية أو عضلية أو نُسُج أخرى بديلة، لعلها ـ في يوم ما ـ تُستعمل لعلاج المرضى والمصابين بعلل متنوّعة. ولكن لسوء الحظ، واصل جنين واحد فقط تشكّله حتى مرحلة ست خلايا، وتوقف بعدئذ عن الانقسام. ولكن في تجربة مشابهة، نجح العلماء في حضِّ البويضات البشرية لتواصل ـ ذاتياً ـ تشكّلها من دون تخصيبها بنطاف، ولتتنامى عبر التوالد البكري أو العذريّ إلى كيسات أُريمية Blastocysts. ويعتقدون أنّ هذين الإنجازَين معاً، اللذين نُشرت تفاصيلهما في المجلة العلمية Regenerative Medicine، يمثلان فجر عصر جديد في الطب، وأنّ الاستنساخ العلاجي أصبح في متناول اليد. • ما هو الاستنساخ العلاجي؟ يهدف الاستنساخ العلاجي إلى استعمال المادة الوراثية أي الجينية من خلايا المريض ذاته، لتوليد خلايا بنكرياسية على سبيل المثال بهدف معالجة داء السكري أو خلايا عصبية لإصلاح النخاعات أو الحبال الشوكية التالفة. • هل يختلف عن الاستنساخ التوالدي Reproductive Cloning؟ يتمثَّل الاستنساخ التوالدي أو التناسلي، في السعي الى اغتراس جنين مستنسخ في رحم امرأة، ويؤدي إلى ولادة طفل مستنسخ. ونعتقد أنّ للاستنساخ التوالدي مخاطرَ محتمَلة لكلّ من الأم والجنين، ممّا يجعله غير مبرَّر في الوقت الحالي. ونحن نؤيّد وضع قيود على الاستنساخ لأغراض توالدية حتى يتمّ إيجاد حلول ملائمة لموضوع السلامة وللمشكلات الأخلاقية والدينية التي تكتنفه. • لماذا يُثير الاستنساخ التوالدي القلق؟ في الواقع، ما يبعث على القلق هو أنّ مؤيّدي الاستنساخ التوالدي يحاولون تحريفَ مرامي "الاستنساخ العلاجي" وأهدافه السامية، مدّعين أنّ استعمال تقنيات الاستنساخ لتكوين طفل لزوجين لا يستطيعان الإنجاب وسيلة تضمن لهما تحقيق الحلم بالذرّية التي يتطلَّعان اليها. وكانت الخطوة التالية توفير نسوة يمنحن بويضاتهن لتُستعمل في عمليات الاستنساخ، وأيضاً توفير "المانحين" لاستنساخ خلايا مأخوذة منهم. ومع أنّ سيرورة الاستنساخ تبدو بسيطة، فالنجاح يعتمد على عدد من العوامل، بعضها غير مفهوم حتى الآن. ويستعمل العلماء في تقنية النقل النووي Nuclear Transfer الأساسية إبرة دقيقة جداً لسحب المادة الوراثية من البويضة الناضجة. ثمّ يحقنون نواة الخلية المانحة داخل البويضة المنزوعة النواة. بعد ذلك تحضن البويضة تحت ظروف خاصة تحضّها على الانقسام والنمو. وطُلب من السيدات المانحات المحتمَلات، الخضوع لاختباراتٍ نفسيّة وجسدية، تشمل الكشف عن الأمراض المُعدية، للتأكد من سلامتهن وجودة بويضاتهن. وتوفر نحو اثنتا عشرة امرأة، اعتُبرن مرشَّحات صالحات لمنح البويضات. وفي غضون ذلك، أُخذت خزعات جلدية Skin Biopsies من عدد آخر من الأفراد مع إغفال أسمائهم، وذلك لعزل خلايا تُعرف بالأرومات الليفية fibroblasts، لاستعمالها في عملية الاستنساخ. وقد ضمَّت مجموعة مانحي خلايا الأرومة الليفية أفراداً من أعمار متباينة، يتمتعون بصحة جيدة، أو يعانون اضطراباتٍ صحية، مثل داء السكري أو أذية في النخاع الشوكي، أي أفراد يُنتظر أن يسفيدوا من الاستنساخ العلاجي. • كيف يتكوَّن الجنين البشري المُستنسَخ؟ يتكوَّن الجنين بشري المستنسخ من ست خلايا على الأقل. وفعلاً بعد جهود حثيثة، انقسمت خلية إلى ست خلايا، ثمّ توقف النمو. ولقد سبق أن أعلن الباحثون عن حضّ بويضات من الفئران والأرانب على الانقسام وتكوين أجنّة، وذلك بتعريضها لمواد كيميائية أو لمنبِّهات فيزيائية مختلفة مثل الصدمة الكهربائية. ففي عام 1983، أوضحت جامعة هارفارد، أنّ الخلايا الجذعية المعزولة من أجنّة فئران تكوَّنت بالتوالد البكري، ويمكنها أن تعطي تشكيلة مختلفة من النُّسُج، بما في ذلك النسيجان العصبي والعضلي. وفي تجارب التوالد البكري، قام العلماء بتعريض 22 بويضة للمواد الكيماوية التي غَيّرت تركيز الذرات المشحونة، المسماة الأيونات، في داخل الخلية. وبعد خمسة أيام من النمو في أطباق الزرع، تنامت ست بويضات وكوَّنت ما بدا أنه كيسات أُريمية، لكنّ أيّاً منها لم يحتوِ بوضوح على ما يُسمى الكتلة الخلوية الداخلية، التي تنتج الخلايا الجذعية. • إلامَ يتوق العلماء حالياً؟ لا شك في أنهم يتوقون إلى اليوم الذي يستطيعون فيه تقديم استنساخ علاجي، أو علاج خلوي للمرضى يعتمد على التوالد البكري. وتتركَّز الجهود في الوقت الحاضر على أمراض الجهازَين العصبي والقلبي الوعائي وعلى داء السكري واضطرابات المناعة الذاتية Autoimmune Disorders وأمراض الدم ونقي العظم. ويأملون في إيجاد علاج للنخاع الشوكي التالف ولاضطرابات الدماغ مثل داء باركنسون. وقد يستجيب لهذه المقاربة أيضاً داء الألزهايمر والسكتة الدماغية والصرع. وإضافة إلى خلايا البنكرياس المنتجة للأنسولين التي تعالِج الداء السكري، فإنّ الخلايا الجذعية من الأجنّة المستنسخة يمكن أيضاً أن توجَّه لتصبح خلايا عضلية قلبية، يُعالَج بواسطتها قصور القلب الاحتقاني وعدم انتظام ضربات القلب وغيرها. وهناك تطبيقات، تتضمَّن حثّ الخلايا الجذعية المستنسخة لتتمايز إلى خلايا الدم ونقي العظم. وتنشأ اضطرابات المناعة الذاتية، كمرض التصلّب المتعدد والتهاب المفاصل الروماتيدي على سبيل المثال، عندما تهاجِمُ الخلايا الدموية البيضاء، التي تنشأ عن نقي العظم، نسج الجسم ذاتها. وقد أظهرت الدراسات الأولية أنّ مرضى السرطان المصابين أيضاً بأمراض المناعة الذاتية، تحسَّنت حالتهم في ما يتعلَّق بأعراض المناعة الذاتية بعد اغتراس نقي العظم فيهم، ليحلّ مكان نقيهم الذي كان قد قُضي عليه نتيجة الجرع العالية من المعالجة الكيماوية للسرطان. • وماذا عن التجارب التي تُقام على المستوى المحلّي؟ على المستوى المحلّي تمَّ استحداث بنوك في بعض المستشفيات من أجل الاحتفاظ ببعض الخلايا من الحبل السرّي خلال لحظة الولادة وأخذ ما يُسمى Cord Blood حيث يحتوي على مجموعة من الخلايا يمكن التعاطي معها على أنها جذعية وبالتالي استخدامها عند الحاجة لاحقاً بعد أخذ موافقة أهل الجنين على ذلك، وقد عاينتُ ذلك شخصياً ضمن فريق عمل مشترك ما بين جامعة بروكسل الحرة ممثلة بالبروفسور أرسين بورني والجامعة اللبنانية ممثلة بالبروفسور بسام بدران، حيث تمّ أخذ بعض الخلايا من 10 نساء في مستشفى بهمن وقُسمت الخلايا تبعاً لرغبة الأهل على قسمين: جزءٌ تمَّ الاحتفاظ به والجزءُ الأخر كخلايا للاستخدام البحثي. • ولكن هل الخلايا المستنسَخة ـ أو تلك المتكوّنة من خلال التوالد البكري، موفورة الصحة؟ إنّ الاختبارات السريرية لهذه الخلايا هي وحدها التي ستُظهر في النهاية ما إذا كانت آمنة بما يكفي للاستعمال الروتيني ومعالجة المرضى، ولكنّ دراستنا للحيوانات المستنسَخة أوضحت أنها جيدة. ولقد أعلن العلماء في مجلة "ساينس" عن نجاحهم في استنساخ الأبقار. فمن بين 30 بقرة مُستنسَخة، نفقت ست بقرات بعد ولادتها بفترة قصيرة، أما بقية البقرات فكانت نتائج فحوصها جيِّدة، وأظهرت اختبارات أجهزتها المناعية أنها لا تختلف عن الأبقار العادية، حتى إنّ اثنتين منها أنجبتا عجلين صحيحين وموفورَي الصحة والعافية. (تيري رومانوس - الجمهورية)