سئل أحد الفلاسفة عمن يصلح ليكون رئيسًا أو زعيمًا أو قائدًا أو موجّهًا، وما هي الصفات التي يجب أن يتحّلى بها من يجب أن تُسند إليه مسؤولية الرئاسة أو الزعامة أو القيادة، فأجاب بسؤال: وهل يصلح لكل هذه المهمات رجل لا يكون حكيمًا؟
فماذا يعني أن يكون المسؤول، في أي موقع من مواقع المسؤولية، ذا حكمة، وبالأخصّ في المواقع المؤثرّة على الرأي العام. ولا يختلف اثنان على أن وسائل الاعلام هي من بين أهمّ المواقع المؤثّرة في التنوير والتوجيه والتصويب، وهي المؤتمنة على حرية التعبير المصانة في الدستور.
فإذا لم يكن على رأس هذه المواقع من لديه ما يكفي من الخبرة والحكمة والاتزان فإنه قد ينجرف مع الموجات، التي تشبه إلى حدّ كبير الموجات الجارفة التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من حالات تفلت وفوضى شاملة، وعلى كل المستويات.
فما بين الالتزام بحرية التعبير والخروج عن المبادئ والأعراف، التي تشرّبها كثير من الاعلامين، الذين رفعوا اسم لبنان عاليًا، خيط رفيع. وقد تختلط الأمور على بعض الذين سكروا على زبيبة، ولم تعد أرجلهم على أرض الواقع، وظنّوا أنهم قادرون من خلال اعتلائهم المنابر الإعلامية أن يتحكّموا بمصائر الناس، وأن يُخضعوا كل كبيرة وصغيرة لمزاجية "طاووسية"وقد سها عن بالهم أن أهمّ الإعلاميين في العالم إنما نجحوا بفعل ما تمايزوا به من تواضع، خصوصًا أنهم يمارسون مهنتهم انطلاقًا من قول الشاعر أبو نواس "قُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ"، فالذين أتيحت لهم فرصة التتلمذ في جريدة "النهار"، منذ نشأتها وحتى غياب الكبار فيها، يعرفون المعنى الحقيقي لممارسة فعل التواضع الذي كان نهجًا في مسيرة الكبير غسان التويني.
ففي كل مرّة كان يحضر اجتماعًا للتحرير كان يتعمّد الوقوف على رأي أصغر المحررين عمرًا وخبرة، وكان يستمع إليه بشغف، موحيًا إليه بأن ما يسمعه منه مهم كثيرًا، ويحسسه بأنه تعلّم منه أشياء كثيرة فاتته. كان يسأل كثيرًا قبل أن يعطي رأيه. كان راجحًا في رأيه، ولكن من دون تبجّح أو تشاوف أو "تطاوس".
وأمثال غسان التويني كثر في عالم الاعلام والصحافة. هم قدّوة لنا في الحكمة والموضوعية والشفافية والتواضع، وفي عدم خلطهم ما بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
أمّا اليوم فإننا نشهد مرحلة لم نألفها من قبل. هي مرحلة التذاكي في إدارة الحوارات مع ضيوف يُفترض بهم أن تُسلّط عليهم الأضواء، وليس على الإعلامي، الذي يحاور. هي مهمّة من أصعب وأدق المهام والمسؤوليات الإعلامية.
فالمحاور الجيد يعرف كيف يطرح اسئلته على ضيفه، المفترض أن يلقى منه كل الاحترام، وإن كان رأيه مخالفًا لرأيه. فحتى في هذا هناك أسلوب يجب أن يتبع من دون إشعار الضيف بـ "الدونية"، ومن دون ممارسة "بطولات" وهمية على الهواء، الذي هو ملك المشاهد، وليس ملك الإعلامي.
وما يُقال عن الاعلام المرئي والمسموع يُقال أيضًا عن الاعلام المكتوب، حيث تتحّول بعض الأقلام إلى أدوات تنفيذية لتشويه الحقائق والابتزاز الرخيص.
بعد اليوم، لم يعد مسموحًا ومقبولًا هذا الفجور الاعلامي المقيت.