لقد صرت أعتل همًّا في كل مرّة اتصل فيها بقريب أو بصديق في لبنان للاطمئنان وسؤال الخاطر. لا حديث سوى حديث الغلاء وارتفاع سعر صرف الدولار. نبدأ بموجة البرد القارس، التي اجتاحت معظم المناطق الأسبوع الماضي، والتي تخترق العظام، مع غياب لوسائل التدفئة، وبخاصة في الجبال. الدولار يهرول والناس تهرول وراءه. لا شيء يمكن أن يفرمل هذه الهرولة الهستيرية. والأنكى من كل ذلك أن كل لبناني أصبح خبيرًا ماليًا واقتصاديًا، ولكل منهم نظريته عن أسباب ارتفاع سعر الدولار بهذا الشكل الجنوني. سعر كيلو البصل وصل إلى حدود المئة ألف ليرة. لا دواء في الصيدليات. وإذا توافر فأسعاره خيالية. سعر صفيحتي البنزين والمازوت يسابق سعر الدولار ارتفاعا. "العيشة ما بقى تنطاق". أولادنا يهاجرون بحثًا عن فرصة عمل. لبنان سيصبح فارغًا من شبابه. قلق على الوضع الأمني بعد تكاثر عمليات السلب.
"النق ضارب طنابو". الكبير والصغير "ينق". جميعهم في الهوا سوا.
وماذا بعد؟
سؤال نطرحه على أنفسنا. ونطرحه أيضًا على الذين أصبح "النق" بالنسبة إليهم وسيلة للتعبير عن القلق الداخلي، أو مجرد "فشة خلق". وعلى رغم كل هذا نرى عجقة سير مخيفة في أغلب الطرقات، وفي عزّ النهار، حيث يُفترض أن يكون الناس في أشغالهم، مع العلم أن "تنكة" البنزين أصبحت تساوي ألف دولار عندما كان الدولار بسعر 1500 ليرة.
وفي مشهد آخر، نرى المطاعم والمقاهي ومراكز التزلج "مفولة". وإذا خطر على بالك أن تقصد أي مطعم أو مقهى للترويح عن النفس وتغيير جو في نهاية أسبوع مثقل بالهموم لا تجد كرسيًا فارغًا، حتى في آخر "ما عمّر الله".
هذا المشهد، وما فيه من تناقضات، يدعونا إلى التفكير في ما سيؤول إليه الوضع في لبنان، مع العلم أن أفق الحلول يبدو مسدودًا، أقّله على المستويين السياسي والاقتصادي المرتبطين بعضهما ببعض.
وعلى رغم هذه الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء أدعو الذين لم يعيشوا ويلات الحرب إلى سؤال من ذاق الأمرّين من مآسيها كيف كانوا يعيشون في ظل التقاذف العشوائي بالصواريخ، التي كانت تزرع الموت في الاحياء السكنية وفي الطرقات وداخل المنازل، وحتى في الملاجئ؟
جميع الذين عاشوا مآسي الحرب يجمعون على أن إرادة العيش لدى جميع اللبنانيين كانت أقوى من الموت. كانوا يتحدّون القذائف العشوائية بصدورهم العارية. وكانوا ينزلون إلى أشغالهم في كل يوم كان يلي ليلة ملتهبة بنار القصف العشوائي. كانوا يزيلون زجاج المنازل والمحلات المتناثر، ويضعون مكانه "نايلون". وهكذا دواليك. كان اللبنانيون يعيشون كل يوم بيومه، لكنهم لم يفقدوا الأمل في أن لكل شيء نهاية. وهكذا انتهت الحرب، التي ذهب ضحيتها عشرات الألاف من القتلى والجرحى والمعوقين.
وقف المدفع، ومع هذا التوقف عادت الحياة تدريجيًا إلى طبيعتها، وعاد الناس إلى أشغالهم، وفتحت الطرقات التي كانت مقفلة بين "شرقية" وغربية".
ولأن اللبنانيين لم يفقدوا الأمل عادت إليهم الحياة التي يستحقونها. ولأن إرادة العيش لديهم أقوى من أي شيء آخر تجدّدت الحياة، التي لم تخلُّ من بعض السقطات. ولعل ما يعيشه اللبنانيون اليوم هو أكبر وأقسى تلك السقطات.
الذين عاشوا ويلات الحرب يعرفون أكثر من غيرهم أن لا بد من أن يبزغ فجر جديد، وأنه بعد كل ليل هناك نهار جديد سيطّل مع زقزقات العصافير وضحكات الأطفال وزهور الحقل وبيادر القمح.
هذا هو لبنان، الذي يتعثّر، ولكنه ولا مرّة سقط. هذا هو لبنان، الذي يصنع من الضعف قوة. هذا هو لبنان، الذي سينتصر على محنه ويطلع منها "مثل الشعرة من العجينة".
هذا ما أريد أن أصدقه، وبالتالي لا أريد أن أصدّق أن لبنان سينهار، وإن كان يعاني، لأن هناك من يحرسه من فوق.
قد يرى البعض في هذا الكلام بعضًا من كلام شعري رومنسي وسوريالي، وقد يرى فيه البعض الآخر بعضًا من أمل لغد أفضل آت. الحقيقة أن فيه من الإثنين معًا. فما "أضيق العيش لولا فسحة الأمل".