لفترةٍ ليست بقصيرة، غابت السفيرة الأميركية دوروثي شيا عن المشهد السياسي في لبنان.. لأكثر من أسبوعين، كانت السفيرة بعيدة عن أي لقاءات بارزة، وهو أمرٌ ربطته بعض الأوساط السياسية بـ"الجمود" الذي سيطر على المشهد أواخر شهر نيسان الماضي بسبب زحمة الأعياد. إلا أنّهُ وبشكلٍ مفاجئ، استعادت شيا نشاطها قبل يومين، فالتقت رئيس مجلس النواب نبيه بري ونائبه الياس بوصعب، وقبل الجولة جاء بيانٌ من وزارة الخارجية الأميركيّة ليؤكّد أنّ لبنان يحتاجُ إلى رئيس "مُتحرر من الفساد وقادرٍ على توحيد البلاد وتنفيذ إصلاحات اقتصادية أساسية".
في الواقع، قد تكونُ جولة شيا بمثابة تأكيدٍ على أن أميركا ما زالت حاضرة في لبنان وسط مشهد المنطقة الذي شهد تبدلات محوريّة مؤخراً إبّان التقارب السعودي – الإيراني. لكنهُ إلى الآن، لا دلائل على وجود مبادرة أميركيّة لحلحلة الملف الرئاسي، والدليل على ذلك هو أنّ واشنطن لم تتحدث عن أسماء فعلية، بل تحدثت بلغةٍ عامة حينما أكدت حاجة البلاد لـ"رئيس مُتحرر من الفساد".
ما أعلنته "الخارجية الأميركية" في هذا الصّدد يتشابهُ مع ما قاله وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان الأسبوع الماضي، إذ قال إنّ "أي شخصية لبنانية مرموقة تصل إلى سدة الرئاسة اللبنانية بالتوافق سيكون مرحباً بها لدى إيران".
إذاً، وسط المشهدية القائمة، يمكنُ القول إنّ لبنان وحّد الأميركيين والإيرانيين على أمرٍ واحد مفادهُ متابعة الملف الرئاسي ولكن بطريقة "حذرة" ومنمّقة، لا تدخلُ في تفاصيل الأمور. حتماً، النقطة هذه قائمة وبقوّة، فبالنسبة للأميركيين والإيرانيين فإنّ هوية الرئيس ليست مُهمّة مقارنة بالمصالح الإستراتيجية الأخرى. هنا، يُطرح السؤال التالي: ما السر وراء ذلك؟ لماذا هذا الحرص على عدم الإنخراط في تفاصيل الأمور؟ وما علاقة السعودية؟
بالنسبة لمصادر سياسية مواكبة للملف الرئاسي، فإن ما يتبيّن هو أن هناك حيطة من إيران وأميركا في التعاطي مع الملف اللبناني طالما أن هناك أيادٍ عربية وغربية تعملُ ضمنه. أما الأمر الأهم فهو أن واشنطن وطهران لا تريدان تجاوز موقف السعودية الذي لم يتبلور بعدُ بشأن الإستحقاق الرئاسي. حتماً، الإنتظارُ هنا مطلوب باعتبار أن قوّة إقليمية كالمملكة تُعدّ المعني الأول بلبنان، وبالتالي لا يُمكن تجاوزها عبر فرض تسويات قد لا تراعي مصالحها. ضمنياً، هذا الأمر تدركه طهران بشدّة، وما يتبين هو أنّ الأخيرة تمسّكت بعدم إستفزاز السعودية في لبنان بتاتاً، والسر كان في كلام عبد اللهيان العام عن رئاسة الجمهورية. فكما تبين، لا مواقف جازمة ولا إشارات حاسمة، والأساس يرتبطُ بما سيؤسس له القرار السعودي وعندها سيُبنى على الشيء مُقتضاه.
إلى جانب كل ذلك، فإنَّ ما تشهده الساحة السياسية من تقلبات في المواقف يستدعي عدم انخراطٍ أميركي مباشر في الوقت الحالي ولا حتى إيراني لأن "الأوراق" ستكون محروقة. لهذا، يظهر أن هناك شبه انتظارٍ لإمكانية حصول توافق سياسي داخليّ بالحد الأدنى، وهذا ما تؤكده واشنطن مراراً وتكراراً لأن ذلك يجب أن ينسحب على ملفات أخرى مختلفة عن ملف الرئاسة.
واقعياً، فإنّ أميركا مُهتمة بـ"السلة المتكاملة" للحل، وهي ترى أن الإنسجام السياسي في لبنان مطلوبٌ بالحد الأدنى لتحقيق إصلاحات إستراتيجية ضمن مواقع حساسة تمثل سلطة قرارٍ فعلي بدءاً من رئيس جمهورية وحكومة فاعلة وصولاً إلى سلطة نقدية متينة تتمثل بحاكمية مصرف لبنان. السبب الأساسي هنا يكمن في أنّ الولايات المتحدة تريدُ أرضية مالية مستقرّة تُمهّد الطريق للحفاظ لاحقاً على إستثمارات الغاز في حوض المتوسط، وتفتحُ المجال أمام الشركات الأجنبية بالإستثمار في مجالات الطاقة ضمن لبنان والمنطقة بشكلٍ يُريح واشنطن من جهة، ويساهم في تحصين "إسرائيل" أمنياً من جهة أخرى. ففي حال تمكن لبنان من ضمان التنقيب عن الغاز والنفط عبر منصات تابعة له، عندها ستكونُ فرص معركته ضد "إسرائيل" ضئيلة، لأن معادلة الردع عبر منصات الغاز ستكون قد تحققت.
أما على الجبهة الإيرانية، فإنّ ما يهمّ طهران هو عدم المساس بـ"حزب الله"، ولهذا كان الدعمُ مُطلقاً للأخير لاسيما في كلام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قبل يومين. وعليه، فإنه طالما كان الحزبُ محصناً من الإستهداف، طالما كانت إيرانُ مُرتاحة مع لبنان. ولتحقيق ذلك، ترى طهران نفسها في أمانٍ طالما أنها لا تتدخل في شؤون الرئاسة، على حد قولها، لأنه في حال حصل عكس ذلك، فإن أوراق "حزب الله" ستضعف داخلياً، وستكون قدرته لإيصال مرشحه أقل صعوبة.
في خلاصة القول، ما يتبين من سياق كل ذلك هو أنّ التقاطع الإيراني – الأميركي بات يتجلى تدريجياً في لبنان، لكن العبرة في الخواتيم.. والسؤال: لمن ستكون الغلبة في النهاية؟ هل ستكون التسوية لصالح طرفٍ على حساب آخر؟