بين تفاؤل اللبنانيين بالتراجع الطفيف في سعر صرف الدولار، وتأكيد معنيين في الشأن المالي والمصرفي أن منصة صيرفة ستستمر إلى ما بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يظن البعض أن لبنان يقترب من توحيد سعر الصرف إلا أن المنطق يقول إن أي تدبير في هذا الشأن سوف ينتظر إنجاز الاستحقاقات الدستورية وتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي، وبعد ذلك لكل حادث حديث. وما يجري اليوم على صعيد إصدار بعض التعاميم والقرارات لا يتجاوز الحلول الموقتة.
ولقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مصير سعر الصرف والسياسة النقدية ومصيرها في ظل الصعوبات التي يعيشها لبنان لناحية الشغور الرئاسي وحكومة تصريف الأعمال ومجلس النواب المكبل بميثاقية التشريع وعقم إنتخاب رئيس للجمهورية.
ثمة مجموعة كبيرة من المعنيين بسعر الصرف (سياسيون ومصرفيون وماليون وصرافون) تروج بأن سعر الصرف بدأ يأخذ المنحى التراجعي وسيستمر وصولاً الى ما دون السبعين ألف ليرة، ويجزمون بأن الأمور ستسير كذلك من دون أية دراسات أو توضيحات.
وثمة فريق آخر أيضاً من السياسيين والمصرفيين والماليين فضلا عن رأي عام يعتقد ويروج بأن سعر الصرف سيبدأ بالتصاعد اعتباراً من الأسابيع المقبلة وقد يصل إلى أرقام خيالية غير مسبوقة وطبعاً بناءً على أخبار وتحليلات من دون تقديم أية براهين علمية أو توضيح للمؤشرات المالية والإقتصادية التي استندوا إليها.
مما لا شك فيه أن السياسة النقدية وأدواتها التقنية التي استخدمها مصرف لبنان خلال الأشهر المنصرمة ساهمت، بحسب ما يؤكد الخبير المالي والاقتصادي بلال علامة ل"لبنان24"، في تهدئة سوق الصرف وأرست معادلات جديدة في السوق المالية إنتهت بتحديد هوامش لسعر الصرف تتراوح ما بين 86000 الف ليرة على منصة صيرفة و93000 ليرة في السوق الموازية. ما كان هذا ليحصل لولا تقاطعات ظرفية حصلت بين السياسات التي إعتمدها مصرف لبنان وسياسات حكومة تصريف الأعمال المالية التي إستطاعت تحرير كل الرسوم والضرائب ورفعها الى مستوى سعر صرف منصة صيرفة أي 86000 ليرة وفي الوقت نفسه حاولت معالجة تعدد أسعار الصرف بحيث بدأ الإيحاء بأن سعر الصرف الموحد قد يفرض تموضع السعر بحدود 80000 ليرة ليتم لاحقاً إعتماد هذا السعر في موازنة 2023.
في تحليل الأمور يتوجب، كما يقول علامة، شرح التموضع النقدي الحاصل حالياً من الناحية المالية وكيف تراجع سعر الصرف وضبط خلال الأشهر الماضية خاصة وأن الإجراءات وتقنيات العمل النقدية المطبقة من قبل مصرف لبنان ساهمت بشكل لافت بسحب جزء كبير من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من التداول بعد شراء الليرات من المواطنين وضخ كميات كبيرة بالدولار في المقابل. وقد قدرت المبالغ المسحوبة بالليرة اللبنانية تقريباً ب 15 تريليون من الليرات. في الوقت نفسه استطاعت السياسات المتبعة من قبل المصرف المركزي تحويل التدفقات المالية والتحويلات التي ترد الى لبنان (وهو البلد الذي يحوز على المرتبة الأولى من حيث قيمة هذه التدفقات والتحويلات 8.5 مليارات دولار سنوياً تقريباً) الى مبالغ تصرف ضمن الدورة الإقتصادية الإستهلاكية في لبنان بدل أن تذهب الى الإدخار الريعي والإستثمار سواءً في العقار أو في المحافظ المالية، علما أن نسبة التحويلات المالية والنقدية للبنان سنوياً تقدر ب 40 % من الناتج المحلي اللبناني.
ويقول علامة: لقد إستطاع مصرف لبنان بعد سلسلة الإجراءات والتعاميم على مدى سنتين تجميد أو تخفيف عبء النقد الرديء في الإقتصاد واستبداله بالنقد الجيد وذلك من خلال فصل الدورة المالية الحقيقية عن الدورة المالية المتضخمة رقمياُ، وهنا المقصود الأموال المشتقة التي كانت بعض المصارف تنتجها من خلال السياسات التي اعتمدتها سابقا، وكان الهدف طبعاً وقف الريع والتضخم المالي .
مع إزدياد الحديث عن أن المصرف المركزي سيعمد خلال الفترة القريبة المقبلة إلى تعديل السعر المعتمد للدولار المصرفي بحيث سيتم رفعه الى ما يقارب 35000 ألف بدل سعر 15000 ليرة المعتمد حالياً، ومع الحديث عن موسم سياحي واعد للبنان خلال الصيف وقدوم ما بين مليون ونصف مليون إلى مليوني زائر ستكون الأشهر المقبلة، بحسب علامة، مناسبة لإستكمال مسيرة ضبط سعر الصرف ومتابعة تخفيضه لما دون ال 75000 ليرة.
لا يخفى على أحد أن سعر الصرف في لبنان ليس نتاج السياسات النقدية والمالية لوحدها إنما يتأثر أيضاً بالمعطيات السياسية وتعقيدات الوضع اللبناني السياسي والإداري والدستوري، وهذا الشأن يحمل في طياته مخاطر كبيرة تتمثل بعدم قدرة السلطة السياسية في لبنان على إنتاج حلول تبدأ من إنتخاب رئيس للجمهورية مرورا بتشكيل حكومة مستقلة عن الأحزاب قادرة على التعامل مع تبعات الأزمات المتراكمة ولا تنتهي بإجراء التعيينات المطلوبة، خاصة وأن الشغور على مستوى حاكمية مصرف لبنان ستكون له تبعات كبيرة إذا ما تم تعديل الإجراءات المعتمدة من قبل مصرف لبنان أو تعديل الأدوات التقنية المستعملة ومنها منصة صيرفة.
في هذه الحالة وإذا إستمرت سياسة الإنكار لكل الأزمات المتراكمة ربطا بالنكد السياسي، سيعود الوضع، وفق علامة، ليأخذ منحى الإنهيار وسيعود الارتفاع مجددا في سعر الصرف وعندئذِ ستعجز كل الإجراءات التي ستتبع عن وقف الإنهيار والتدهور.
أي سيناريو مالي سيشهد لبنان في النصف الثاني من العام 2023 ؟ الأمر متروك للظروف ولا يمكن الجزم بأن أيا من الإتجاهين المتعلقين بسعر الصرف سيبصر النور وسيكون سيد المسرح المالي والنقدي، لكن علامة يأمل بألا يكون المسرح المالي أداة تستعمل في تحديد مصير لبنان ومستقبله شكلاً ومضموناً.