ليس تفصيلًا ما حدث في القرنة السوداء في "سبتها الأسود". ليس تفصيلًا أن يُقتل شابان في ظروف غامضة. ليس تفصيلًا ما حدث في مثل هذه الظروف الصعبة والمتوترة التي يعيشها اللبنانيون في كل مكان، وليس في القرنة السوداء فقط، بعدما تحوّل لبنان إلى زوايا سوداء. الأسباب كثيرة، ولعل أهمها أن الدولة غائبة أو مغيّبة، بكل ما تعنيه كلمة دولة من سيادة، وحرية قرار، وأمن، وعدالة، ووجود، وامتداد شرعي في وجه أي امتداد آخر.
قد يكون السبب المباشر والظاهر خلاف قديم بين بلدتي بشري وبقاعصفرين على أولوية الاستفادة من عين مياه موجودة في المنطقة، ويدّعي كل من أهالي البلدتين أحقيتهم في امتلاكها. وعلى رغم حساسية هذه المسألة، والتي أثارت أكثر من اشكال وتوتر بين الأهالي في الماضي، فإن تلكؤ المسؤولين السياسيين والأمنيين، وعدم وضع القضاء يده على هذا الملف الحسّاس، وإعطاء صاحب كل حق حقّه، أدّيا إلى هذا التوتر، الذي يتحرّك بين الحين والآخر، ويستغّله بعض المصطادين في المياه العكرة لتعكير الجو بين بلدتين لبنانيتين يُفترض أن يكون أهاليهما مسالمين وبعيدين كل البعد عن أجواء الفتنة الطائفية والمناطقية، مما يوحي بأن ثمة من يحاول أن "يلعب" بالخط السيادي للدولة من خلال رسم حدود داخلية غير وهمية لتثبيت وجود معين له امتدادات تواصلية مع أكثر من منطقة جبلية.
ففي هذا الجو المشحون، الذي تعيشه البلاد، يبدو أن السؤال عمّن يسعى الى اشعال فتنة طائفية في الشمال سؤالًا بديهيًا وفي مكانه الطبيعي. ولا بدّ أيضًا من أن نسأل: هل من جهات معينة تريد تعكير صفو الأمن، ليس في القرنة السوداء، بل في كل القراني السوداء، وما هي حقيقة مقتل الشابين من بلدة بشري، وما حقيقة ما حصل بالضبط حين اشتبك بعض البشراويين مع عناصر من الجيش، التي توجّهت إلى مكان الحادث الأول للحؤول دون تفاقم الوضع، ووضع حدّ لأي محاولة لإثارة الفتن؟
فما حصل في القرنة السوداء ممكن أن يحصل في أي مكان آخر مشابه للوضعية القائمة بين بشري والضنية. فالوضع في لاسا ومحيطها ليس أفضل بكثير، وكذلك الوضع في منطقة الشوف. وهكذا في مناطق عقارية أخرى كبلدتي المتين والزعرور مثلًا.
فلو أن القضاء تحرّك وحسم الخلاف القائم بين منطقتين لبنانيتين متنازعتين على أحقية الاستفادة من المياه والرعي والري في منطقة غير محدّدة الحدود، لما كان حصل ما حصل في "السبت الأسود" بنسخته الجردية. ولو أن الأجهزة الأمنية كانت ساهرة على أمن تلك المنطقة الحسّاسة لما استفاد بعض شذاذ الأفاق من هذه الثغرة، ولما تجرّأوا على القيام بهذا العمل الجبان، الذي كاد يشعل نار فتنة مذهبية لولا تدّخل العقلاء، وهم كثر، في هذه المنطقة أو تلك، لوأد الفتنة في مهدها، ولحؤول دون تفاقم الأوضاع على الأرض.
المطلوب من الجيش، الذي يقوم بواجبه الوطني على أكمل وجه على رغم ظروفه الاقتصادية الضيقة، أن يضرب بيد من حديد جميع الذين يحاولون اللعب بالنار، وإثارة الفتن الطائفية المتنقلة، و"تنظيف" كل "القراني السوداء" من جميع الذين يختبئون في جنح الظلام لزعزعة السلم الأهلي.
كثر الذين تحرّكوا، وفي طليعتهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي تابع تفاصيل الحادث عبر سلسلة اتصالات أبرزها مع قائد الجيش العماد جوزاف عون والمراجع الأمنية والقضائية المختصة. وشدّد على أنّ "هذا الحادث مدان وستتم ملاحقة مرتكبيه وتوقيفهم ليأخذ القانون مجراه وليكونوا عبرة لغيرهم". وشدّد خلال اتصال مع النائبة ستريدا جعجع على ضرورة تحلي الجميع بالحكمة وعدم الانجرار الى أي ردّات فعل خصوصاً في هذا الظرف الدقيق الذي نعيشه".