رويدًا رويدًا، عادت "السخونة" إلى الجبهة الجنوبية في الأيام القليلة الماضية، مع الخطوات "الاستفزازية" التي أقدم عليها العدو الإسرائيلي، ولا سيما من خلال إنشاء سياج شائك وبناءِ جدارٍ اسمنتي حول بلدة الغجر، في ما اعتُبِرت محاولة لفرض "الاحتلال" على كامل البلدة، بشقّيها "اللبناني والمحتلّ"، ما يشكّل خرقًا واضحًا لقرار مجلس الأمن 1701، الذي تمّ التوصل في أعقاب حرب تموز 2006.
وإذا كانت هذه "السخونة" قد تجلّت بوضوح في "الاستنفار" الذي سُجّل يوم الخميس، بعد إطلاق قذيفة من لبنان، سارعت إسرائيل للردّ عليها بقصف لمنطقة الإطلاق، بعد "ارتباك" واضح في مقاربة الحدث، فإنّها غير محصورة بهذه الوقائع الميدانية، التي سبقها بيانان لافتان لكلّ من وزارة الخارجية التي حمّلت العدو الإسرائيلي مسؤولية "أي تصعيد"، و"حزب الله" الذي حذر من "احتلال بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع".
وفيما كان لافتًا في بيان "حزب الله" دعوته الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها، كما الشعب، إلى "التحرك لمنع تثبيت هذا الاحتلال وإلغاء الإجراءات العدوانية التي أقدم عليها"، تُطرَح سلسلة من علامات الاستفهام، فهل ما حصل دليل آخر على اقتراب لحظة "المواجهة"، التي يترقبها البعض منذ العام 2006، ويعتقدون أنّها آتية عاجلاً أم آجلاً؟ وما صحّة "الفرضية" القائلة بأنّ للتوتر الجنوبي دلالاته ومآلاته في السياسة، على وقع الاستحقاقات المجمّدة؟!
"فصل كامل"
في المبدأ، يؤكد العارفون وجود "فصل كامل" بين ما جرى في الجنوب في الأيام الأخيرة، وبين الواقع السياسي المتأزّم على أكثر من صعيد، وتحديدًا في استحقاق الانتخابات الرئاسية الذي يراوح مكانه منذ أشهر، حتى لو لاذ للبعض "ربط" الأمور بشكل لا يبدو واقعيًا، تمامًا كالفرضيّة التي روّج لها البعض، لجهة أنّ "حزب الله" قد يلجأ إلى "الحرب" للهروب إلى الأمام، أو ربما لرفع سقوفه التفاوضية في ظلّ عجزه عن إيصال مرشحه للرئاسة.
في هذا السياق، لا يرى المؤيدون لـ"حزب الله" أنّ مثل هذه الفرضيّة قابلة للتصديق، أو أنّ التداول بها "ملائم" أصلاً، ولا سيما أنّ العدو الإسرائيلي هو "المبادِر للاستفزاز"، فإذا كانت خروقاته اليومية للسيادة اللبنانية برًا وبحرًا وجوًا، أصبحت أمرًا "روتينيًا" لم يعد يستحقّ مجرّد الإدانة من قبل البعض، فإنّ ما جرى في بلدة الغجر ليس مجرّد خرق، بل يرقى لمستوى محاولة فرض أمر "احتلالي" واقع، لا يمكن أن يكون مقبولاً من اللبنانيين.
استنادًا إلى ما تقدّم، يشدّد العارفون على "خطورة" الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة، ولا سيما أنّها تنطوي على "عبث فعليّ" بالاتفاقات والتفاهمات المعمول بها، ولا سيما أنّ الجزء اللبناني من بلدة الغجر الذي يسعى العدو لإحكام سيطرته عليه، تعترف به الأمم المتحدة جزءًا من الأراضي اللبنانية، وهو ما يتطلب مواجهة حقيقيّة من جميع اللبنانيين، بمعزل عن انتماءاتهم السياسية، وبغضّ النظر عن انقساماتهم في الملفّ الرئاسي وغيره.
هل تلوح الحرب في الأفق؟
من هنا، يعتقد العارفون أنّ "تسييس" ما جرى في الجنوب ليس في موقعه، علمًا أنّ وقوع أيّ "مواجهة" لا يفترض أن يكون له أيّ انعكاسات أو مآلات على الواقع السياسي، ولا سيما "الرئاسي"، علمًا أنّ "المنطق" يفترض أن يكون جميع اللبنانيين متّحدين، وعلى وقفة "رجل واحد"، في حال حصول "المحظور"، من منطلق "سيادي" بالدرجة الأولى، و"مبدئي" بالدرجة الثانية، باعتبار أن الانقسامات توضَع جانبًا، متى دقّت ساعة الصراع مع العدو.
وإذا كان المطّلعون يؤكدون أنّ "الاستنفار الجنوبي" يختلف بطبيعته ودلالاته، عن كل مراحل "السخونة" التي شهدها الصراع في الفترات الأخيرة، وهو لا يندرج في خانة "الصواريخ المجهولة" التي كانت تُطلَق بين الفينة والأخرى تضامنًا مع القضية الفلسطينية واستنكارًا للاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، إلا أنّهم يؤكدون أنّ ذلك لا يعني على الإطلاق أنّ الحرب أضحت أمرًا واقعًا، أو حتى أنّ لحظة المواجهة قد اقتربت فعليًا.
يلفت العارفون في هذا السياق إلى أكثر من "مفارقة" يجب أن تسجّل في تطورات الأيام الأخيرة، وبينها "الارتباك" الإسرائيلي الواضح الذي أعقب الحديث عن إطلاق قذيفة من لبنان، ولا سيما "تكذيب" الخبر أولا، ما يوحي أنّ العدو لا يستعجل المواجهة، ولكن أيضًا بيان "حزب الله" اللافت في مضامينه، لجهة دعوة الدولة بالدرجة الأولى إلى التحرك، مع ما ينطوي عليه ذلك من دعوة للمقاومة السياسية، وإن كانت "اليد على الزناد"، كما يقال.
يقول العارفون إنّ "حزب الله" مستعدّ للمواجهة، تحت شعار "إن أرادوها حربًا مفتوحة، فلتكن"، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ أوان مثل هذه الحرب قد آن، ولو أنّها تبقى احتمالاً واردًا في أيّ لحظة. برأي هؤلاء، فإنّ الحرب اليوم لا تشكّل "مصلحة" لا لإسرائيل، المرتبكة والخائفة، والتي لا تبحث عن فتح المزيد من الجبهات، ولا للبنان الغارق في أزماته التي لا تنتهي، من دون أن يعني ذلك "سكوته" على حقوقه مهما كان الثمن!