صدقوني القول إن الشعب اللبناني تعب كثيرًا وشبع قرفًا. فبعد كل الذي مرّ عليه من مصائب وويلات وأزمات لم تعد "تفرق" معه إذا كان النظام القائم حاليًا هو الأصلح للبلد، أو أن الإصلاحات التي يطالب بها المجتمع الدولي ستشكّل له الضمانة بأن وضعه المعيشي سيتحسّن، وسيكون أفضل مما عليه اليوم، أو ما يهّوَل به عليه مما يُسمّى "مؤتمرًا تأسيسيًا" أو ما شابه، أو حتى التلويح باعتماد الفيديرالية كصيغة متقدمة للبنان الغد.
جلّ ما يهمه هو أن يكون أمنه الاجتماعي مضمونًا بالفعل وليس بالقول، وألا يكتنف مستقبل أولاده الغموض، وألا تتكرّر مآسي الحروب كل عشر سنوات، أو أن يموت مريضه على أبواب المستشفيات، أو أن يضطرّ لـ "تبويس" أيدي الزعماء لتأمين وظيفة لولده، الذي يحمل شهادات أطول من ذاك الزعيم أو المتزعم، سواء أطُبقت اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، التي يطالب بها رئيس "التيار الوطني الحر" كشرط لكي يقبل بأن يضحي بـ "بالسنوات الست المقبلة"، أو في حال اعتماد الفيديرالية، أو حتى إذا فُرضت المثالثة ضمن المناصفة.
ماذا تغيّر بالنسبة إلى وضعية الطائفة الشيعية عندما تسّلم العميد الياس البيسري مديرة الأمن العام بعد إحالة المدير السابق اللواء عباس إبراهيم على التقاعد، وماذا تغيّر بالنسبة إلى وضعية الطائفة المارونية عندما تسّلم وسيم منصوري مسؤولية حاكمية مصرف لبنان بعد انتهاء ولاية رياض سلامة، التي امتدت لثلاثين سنة من دون توقف؟
قد يقول البعض إن في هذا الكلام إخلالًا بالتوازنات القائمة على تبادل الخدمات في السلطة. ولهؤلاء نقول إن أموال المودعين وتعب السنين ليسا ملكًا لهذه الطائفة أو تلك. فهذه المدخّرات، وأصحابها ينتمون إلى كل الطوائف، ومن بينهم موارنة، فماذا قدّم لهم سلامة من ضمانات، وهو ماروني أبًا عن جدّ؟
بالطبع لست في وارد تحميل كامل المسؤولية للحاكم السابق المتواري عن الأنظار. فهو جزء من تركيبة أدّى أداؤها إلى ما وصلت إليه البلاد من حال هريان ما بعده هريان. المسؤولية الجزائية مشتركة بين جميع الذين وافقوا على مدى ثلاثين سنة على هندسات غير واقعية، وبين جميع الذين ساهموا في التجديد له مرّة واثنتين وثلاثة. وهي مسؤولية السلطة التشريعية، التي لم تراقب ولم تحاسب، ولم تضرب يدها على الطاولة، ولم تتدّخل لإصلاح ما كان يجب إصلاحه، وأن تستبق مفاعيل هذا الانهيار، خصوصًا أن جميع الأحزاب اللبنانية كانت ممثلة في شكل أو في آخر في الندوة البرلمانية، وبالأخصّ في السنوات الأخيرة، التي بدأت تتمظهر معها ملامح الانهيار. وهنا لا بد من التذكير بالموقف الذي أعلنه البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي بعد لقائه الشهير مع الرئيس السابق ميشال عون، حين أعلن ومن على درج قصر بعبدا أن البلاد مقبلة على حال افلاس غير مسبوقة.
أذكر أن النائب الراحل نسيب لحود هو واحد من بين قّلة، الذي تجرّأ وأعلن رفضه غير القابل للمساومة لمبدأ استدانة الدولة من المصارف بفوائد مرتفعة جدًّا، وهذا ما أوصلنا إلى ما نحن عليه.
فإذا لم تكن السلطة التشريعية حامية للدستور، وهذا ما يُفترض أن يكون عليه دورها، فإن أي حديث آخر سيكون في غير محلّه وفي غير موقعه الطبيعي، ولا يعود مستغربًا أن تصل البلاد إلى هذا الدرك وإلى هذا المستوى من العيش، الذي يفتقد إلى الحدّ الأدنى من الأمان الاجتماعي.