ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل المقدس ألقى عودة عظة قال فيها: "إنجيل اليوم بحسب لوقا الإنجيلي يخبرنا عن حادثة شفاء أعمى على يد الرب يسوع. متى الإنجيلي، على عكس لوقا ومرقس الإنجيليين، يقول إن الرب شفى أعميين، لا واحدا، ومرقس يذكر أن اسم الأعمى بارتيماوس. على ما يبدو كانا اثنين فعلا، لكن أشهرهما كان بارتيماوس، فذكر مرقس ولوقا واحدا وهو المشهور. قد يحمل هذا معنى رمزيا، إذ إن المسيح أتى ليجعل الإثنين واحدا، أي اليهود والأمم، ويعطي كليهما استنارة ومعرفة لله، لأنهما كانا أعميين، إذ تمسك اليهود بحرفية الناموس، فيما ضلت الأمم في عبادة الأوثان. وبما أن الإنجيلي متى يكتب متوجها إلى اليهود فإننا نجده يذكر وجود أعميين، حتى لا يشعر اليهود بأنهم أفضل من الآخرين بل يدركوا أنهم متساوون بالعمى مع سائر الأمم، حتى ولو كانوا يدعون أنهم "شعب الله".
أضاف: "كان الأعمى جالسا يستعطي. يدل هذا على الخطيئة التي عاش فيها الشعب، فأصيب بالعمى الروحي، وسلك في الظلمة ولم يعد يرى طريق الملكوت، بل جلس يستعطي كسرة عفنة من شهوات زائلة. يقول النبي إشعياء: «الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيما. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور» (9: 2). يتحدث إشعياء عن الشعب الذي ضل وأظلم عقله وقلبه، وكان محتاجا لمن يعيد النور إلى حياته، فأصبح ينتظر مجيء المخلص من ظلام الموت وادلهمامه، فجاء المسيح، لهذا عندما نرتل قول إشعياء هذا نقول بعده: «لأن الله معنا»، وهذا معنى اسم عمانوئيل. لذلك، يقرأ هذا الإنجيل على مسامعنا في صوم الميلاد، لكي نفهم أن الآتي، عمانوئيل، هو النور الهادي حياتنا، الذي إذا تبعناه تستنير نفوسنا، هو القائل: «أنا قد جئت نورا إلى العالم، حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة» (يو 12: 46)".
وتابع: "رمز الأعمى في إنجيل اليوم إلى الشعب، يهودا أو أممين، ومجيء المسيح نحوهم جلب لهم الإبصار مجددا، ومع هذا كثيرون أغمضوا عيونهم لكي يبقوا في الظلمة، لأن النور فضح عدم إيمانهم، وزيف اتباعهم الحرفي للناموس. صرخ الأعمى قائلا: «يا يسوع ابن داود ارحمني». كثيرون انتهروا الأعمى لكي يسكت، كي لا ينير الموجودين حوله بصراخه النابع من اعتراف إيماني بأن يسوع هو ابن داود، وهو الرحوم، أي إنه من النسل الذي سيأتي منه المخلص بحسب الكتاب. إذا اعتبرنا أن هذا الأعمى يهودي، فهو قد سمع بالتأكيد عن المسيا، وأنه سيكون ابن داود حسب النبوءات، لذلك قوله «ابن داود» يحمل إيمانا بأن يسوع هو المسيح المنتظر. هذا يذكرنا بقول صاحب المزامير: «أقسم الرب لداود بالحق ولا يرجع عنه: من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك» (132: 11)، وبقول إشعياء النبي القائل: «يخرج قضيب من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله» (11: 1) ولكي ندرك أن المسيح يحترم حريتنا الشخصية، أي إنه لا يجبر أحدا على السير وراءه وقبوله، نراه يسأل الأعمى: «ماذا تريد أن أصنع لك؟». لا ننسى هنا قول الرب: «إسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا، إقرعوا يفتح لكم» (مت 7: 7). طبعا الله يعلم احتياجاتنا كلها، لكنه ينتظر منا أن نطلب ليستجيب، ويكون هو بدوره يحافظ على الحرية التي منحنا إياها كعطية إلهية. أجاب الأعمى بأنه يريد أن يبصر، فكان له ما طلب، لكن الأعظم من هذا أنه حين أبصر الرب أصبح تابعا له وممجدا الله. لا أحد يستطيع أن يبتعد عن الرب بعد عيشه خبرة شخصية معه. إلا أن المطلوب هو أن نسمح له، بحريتنا الشخصية، أن يمس قلوبنا ونفوسنا وعقولنا، وأن يدخل نوره إلى ظلمة حياتنا. حينئذ ندرك أننا كنا أمواتا وهو أحيانا".
وقال: "هذه المعجزة هي الأخيرة للسيد قبل دخوله أورشليم ليصلب. لقد جاء المسيح ليفتدي البشرية، أمما ويهودا، وليفتح عيون الجميع حتى يعرفوا الله ويشعروا بمحبته. يعلمنا هذا الأعمى أن نصرخ إلى الرب طالبين رحمته. أوليس هذا ما نفعله في صلواتنا، مرددين: «يا ربي إليك صرخت فاستمع لي...»، و«يا رب ارحم»؟ الإنسان الذي يلمسه الرب تصبح حياته بذاتها بشارة حية. لهذا، حين تبع الأعمى المسيح ممجدا الله، أصبحت الجموع تسبح معه. هذا هو المطلوب منا جميع، أن نصبح كارزين بالله الصانع العجائب في حياتنا يوميا، لا بل في كل لحظة. علينا أن نثق بقوة الصلاة، وأن نلح في صلاتنا، الأمر الذي عبرت عنه كنيستنا بوضعها طلبات إلحاحية في كل الصلوات، لتعلمنا أن نكون كالأرملة اللجوج، حتى ننال سؤلنا".
أضاف: "لذلك، يا أحبة، علينا ألا نيأس في هذا البلد من المناشدة والطلب، عل صوتنا يصل إلى آذان تسمع أنين شعب رازح في الفقر واليأس، يتخبط في قاع اللجة. الرب يسمع صوتنا، وفي الوقت المناسب سوف يسمح بوجود مسؤولين تخلوا عن أناهم ومصالحهم ووضعوا مصلحة البلد فوق مصالحهم، يخدمون هذا الشعب ويترأفون عليه وينقذونه من بلاياه، عوض من يسوسون البلد منذ سنوات وقد أوقعوه في الفقر والفوضى، وأفرغوه من أهله وطاقاته، وتغاضوا عن استباحة حدوده وقوانينه، واستهانوا بالإستحقاقات الدستورية فأصبحت فترات الفراغ في الحكم تفوق الأوقات المنتجة. كل هذا لأن قلوبهم عميت عن رؤية نور الرب، إذ قد أظلمتها الشهوة الشريرة، شهوة المال والسلطة. إن لم يتب مسؤولو هذا البلد عن كل خطاياهم وآثامهم لن يحصل الخلاص لا للأرض ولا لساكنيها، بل ستقود خطاياهم الجميع إلى ظلمة أعظم. وإن لم نطلب من الرب بإيمان شبيه بإيمان الأعمى وإلحاحه لن يصل صوتنا إلى مسامع الرب ولن نسمع ما سمعه الأعمى: «إيمانك قد خلصك».
وختم: "دعوتنا اليوم أن نصرخ إلى الرب دوما، وبإلحاح، طالبين إليه أن يرحمنا، وينيرنا بكليتنا، حتى ندرك الخلاص قبل فوات الأوان".