كما كان متوقّعًا، لم تحمل زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسيّ جان إيف لودريان أيّ جديد، يمكن أن يشكّل "خرقًا" في المشهد الرئاسي "المجمَّد" منذ ما قبل عملية "طوفان الأقصى"، التي يقول البعض إنّها "رحّلت" استحقاق الرئاسة اللبنانية إلى ما بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتبعاتها اللبنانية سواء على صعيد الجبهة الميدانية المشتعلة جنوبًا، ولكن أيضًا على مستوى الجبهة السياسية التي تنتظر "انعكاسات" الحرب عليها.
خلال زيارته، كرّر لودريان ما فعله في جولاته السابقة، فالتقى مختلف الأفرقاء، مستمعًا لما لديهم، كما كرّر دعواته لانتخاب رئيس للجمهورية، في أسرع وقتٍ ممكن، من دون أن يتبنّى أيّ مرشّح، وكرّر أيضًا دعواته للحوار والتشاور، من أجل التفاهم على الرئيس العتيد، وإن أضاف إلى ما تقدّم، ضرورة "فصل" الاستحقاق الرئاسي عن الحرب الإسرائيلية في غزة، كما ضرورة "تحصين" الساحة الداخلية لمواجهة كل الاستحقاقات.
لكنّ زيارة لودريان لم تتمحور حصرًا حول الملف الرئاسيّ، وفقًا لبعض المؤشرات، لعلّ أبرزها اللقاء "العاصف" الذي جمع المبعوث الفرنسي برئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، والذي لم يدم سوى دقائق قليلة، خرج بعده الأول "غاضبًا"، بعد سجال اندلع بينهما على خلفية ملف استحقاق قيادة الجيش الداهم، فأيّ تبعات لهذا اللقاء على العلاقة الثنائية؟ وهل ينقلب "التيار" على "المبادرة الفرنسية"، وقد كان من الداعمين المفترضين لها؟
استحقاق قيادة الجيش
شكّل اللقاء القصير والعاصف بين المبعوث الرئاسي الفرنسي ورئيس "التيار الوطني الحر" علامة فارقة في العلاقة بين الجانبين، التي حُيّدت في السابق عن الاختلافات، حتى إنّ أيّ مشهد مماثل لم يحصل حتى حين اتُهِمت باريس بـ"تبنّي" ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، حيث نأى "العونيّون" بأنفسهم عن "الحملات" التي شنّها بعض قوى المعارضة على باريس، ولم يتّهموها كغيرهم بـ"الانحياز والتحوّل إلى طرف" في المعادلة الرئاسية.
يقول العارفون إنّ "كلمة السرّ" في هذا الخلاف المستجدّ تكمن في استحقاق قيادة الجيش الذي فُتِح خلال اللقاء، حيث عبّر المبعوث الرئاسي الفرنسي عن موقف مؤيد للتمديد للقائد الحالي العماد جوزيف عون، وهو ما رفضه باسيل بالمُطلَق، حيث اعتبره تدخّلاً في استحقاق يفترض أنه داخليّ، وبطريقة تناقض المبادئ والثوابت الفرنسية، لجهة التمسّك بالدستور والقانون، ولا سيما أنّ "التيار" يعتبر أنّ هناك بدائل قانونية يمكن الذهاب إليها.
ومع أنّ لودريان أصرّ، وفق كلّ التسريبات والمعطيات، على أنّه لم يكن يعبّر عن موقفه الشخصيّ، أو حتى موقف بلاده، بل كان ينقل موقف المجموعة الخماسيّة بكامل مكوّناتها، فإنّ ما حصل أثار علامات استفهام عن احتمال "انقلاب" باسيل على الحراك الفرنسيّ، الذي يُخشى أن يكون قد خسر كلّ داعميه، خصوصًا بعد الموقف الفرنسي من حرب غزة، ولا سيما في أيامها الأولى، حين تبنّى أطروحة "حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها".
موقف "التيار"
بالنسبة إلى أوساط "التيار الوطني الحر"، فإنّ موقف باسيل يفترض أن يكون محور "ترحيب" من كلّ الأطراف، لا "شماتة وسخرية" كما فعل البعض، ممّن يصنّفون ضمن "الخط السيادي" كما يطلق على نفسه، فإذا به يسخر من "فعل السيادة" الوحيد في زيارة لودريان، بعدما فضّل الآخرون أن يكتفوا بالاستماع، بل وجد بعضهم في كلامه ما "يقوّي" موقفه الداعم للتمديد لقائد الجيش، بوصفه "ضمانة للخارج"، ما يثير أصلاً الكثير من علامات الاستفهام.
يقول المحسوبون على "التيار" إنّ باسيل "انسجم" مع نفسه بالموقف الذي اتّخذه خلال لقاء لودريان، بمعزل عن كلّ ما كُتِب وأثير، فهو كان واضحًا بأنّ موضوع التمديد لقائد الجيش داخليّ محض، ويجب أن يبقى كذلك، وكان أكثر وضوحًا برفضه "الإملاءات الخارجية"، علمًا أنّ باسيل كان يمكن أن يُلام لو فعل العكس، أو لو خرج من اللقاء مع لودريان، متبنيًا منطق "التمديد" بعدما كان يرفضه طيلة الفترة الماضية، لأسباب مبدئية.
لكن، هل يعني ما تقدّم أنّ للقاء العاصف بين باسيل ولودريان تبعاته على العلاقة مع فرنسا، أو أنّ رئيس "التيار" بوارد الانقلاب على باريس؟ تنفي أوساط "التيار" مثل هذا الانطباع، باعتبار أنّ "التيار" لا يتعامل مع الدول الصديقة بهذه الطريقة، ولو أنّها تبدي اقتناعًا بأنّ المبادرة الفرنسية لم تعد موجودة أصلاً لينقلب عليها باسيل أو غيره، وما "تشعّب" أجندة الرجل لتشمل ملفات تتجاوز الرئاسة، سوى الدليل الأسطع على ذلك.
يقول العارفون إنّ زيارة لودريان الأخيرة لم تكن أكثر من "رفع عتب"، فهي تشكّل من ناحية تأكيدًا فرنسيًا على مواصلة الاهتمام بلبنان، علمًا أنّها جاءت "متأخّرة" عن موعدها المحدّد منذ نحو شهرين، كما تندرج في سياق المحاولات الفرنسية للمحافظة على "الدور" في المنطقة، من البوابة اللبنانية الأقرب. من هنا، فـ"لا خرق" متوقّعًا بعد الزيارة، على مستوى الرئاسة، التي يبدو أنها ستبقى مجمّدة، حتى إشعار آخر!