سمعت مؤخرًا مثلًا اسبانيًا أعجبني كثيرًا لأنه ينطبق على الواقع الذي يعيشه اللبنانيون اليوم، وهم منقسمون أفقيًا وعموديًا حتى في الأمور المفترض ألا تكون مثار جدل، إضافة إلى أن الناس في وادٍ ومن هم مسؤولون عن أزماتهم في وادٍ آخر، ولكل منهم تفكيره، وهم لا يلتقون على تحديد الأسباب التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه من حال يُرثى لها.
يقول المثل إن لكل من الحمار والراكب عليه رأيين مختلفين في ما له علاقة بوجهة السير. فالحمار يريد أن يسير بعكس الوجهة التي يريدها صاحبه، فيتسمّر بمكانه ويرفض السير إلاّ وفق ما يحلو له. ولذلك يُعتقد أنه أُطلق عليه لقب "عنيد".
وقد أُسأل عن علاقة هذا المثل بما عليه الوضع في لبنان، وإن كان التشبيه فيه بعض التقليل من قيمة اللبناني، الذي يرفض في الأساس أن يمتطي أحد، أيًّا كان، على ظهره لكي يصل إلى مبتغاه، على رغم كل الظروف المعيشية التي يمرّ بها، وإن كان في أغلب الأوقات يقف على خاطر هذا المسؤول أو ذاك الزعيم لكي يحصل على وظيفة له أو لأحد أبنائه، أو للتوسط له لكي يستطيع أن يُدخل مريضًا إلى مستشفى.
وقد ينطبق هذا المثل على علاقة اللبنانيين مع بعض الدول، التي تحاول أن تفرض عليه ما هم غير مقتنعين به ويرفضونه لألف سبب وسبب، وقد أتى كلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في "المنتدى العالمي للاجئين في جنيف" في هذا السياق معبّرًا عن رفض جميع اللبنانيين "البقاء مكتوفي الأيدي ونتلقى الأزمات المتتالية وأن يعتبرنا البعض مشاريع أوطان بديلة، بل سننقذ وطننا وسنحصّن أنفسنا لأننا أصحاب الحق أولًا وأخيرًا في العيش في وطننا بعزة وكرامة".
كثيرة هي المحاولات، التي لم تنجح في فرض إرادة الخارج على اللبنانيين. ولو خضعوا عبر تاريخهم القديم والحديث لما كان مشروع "لبنان الكبير" قد أبصر النور، ولكان مشروع تهجير المسيحيين من أرضهم، وهم الذين رفضوا الإغراءات التي عُرضت عليهم، قد تحقّق، خصوصًا أن البواخر كانت تنتظرهم في البحر. صمدوا ورفضوا أن يكون لبنانهم وطنًا بديلًا لأي كان.
غالبًا ما تكون مصالح الدول على غير ما تتطّلع إليه الشعوب، وهي بالطبع غير ما يسعى إليه بعض الحكّام. ولذلك تقوم الثورات، وينزل الناس إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم كل ما يتعارض ومصلحة بلدهم، وكل ما يرونه مخالفًا لأصول التعاطي الأخلاقي المفترض أن يسود بين الحكّام أو المسؤولين وبين المواطنين.
فالثورات في العالم حقّقت ما لم تستطع مختلف الأنظمة المعمول بها أن تقدّمه لشعوبها. الأمثلة كثيرة، ومن بينها ما يتعلق بنا في لبنان "ثورة الفلاحين"، التي خيضت ضد الاقطاع. أمّا ما سمي أخيرًا "ثورة 17 تشرين" فلم تحقّق ما كان يؤمل منها. الوضع السيئ ازداد سوءًا. من كان فقيرًا لا يزال يئن ولا من سميع. لم يتغيّر شيء مما كان يجب تغيّره، لا في الذهنية ولا في الممارسة. وأكبر دليل على أننا لا نزال نراوح مكاننا، إن لم نكن قد تراجعنا خطوات ضوئية إلى الوراء، أن بعض الذين أوصلنا أداؤهم السيئ إلى ما وصلنا إليه من "فقر حال" لا يزال صوتهم مسموعًا، وهم متكافلون ومتضامنون على إبقائنا في قعر الحفرة.
ولكن وعلى رغم ما نشهده من فقاعات صابون لا نزال مصممين على رفض الموت البطيء. يكفي أن الناس المغلوب على أمرهم مصرّون على أن تكون أعيادنا المشتركة فسحة أمل، على أن ينضم هذا المثل الاسباني إلى غيره من الأمثلة اللبنانية الموروثة من حقبة الحكم العثماني الآيلة إلى الزوال، ولو بعد حين.
وقبل الدخول في "فراغ" العيد استعاد مجلس النواب دوره في إطار الأدوار التكاملية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وما أقرّه المجلس في جلسة الأمس هو مهمّ وأساسي لانتظام العمل المؤسساتي والحفاظ على الاستقرار العام، ولكنه يبقى ناقصًا في ضوء الاستمرار في تغييب موقع رئاسة الجمهورية. فمن انتصر أمس هو ما تبّقى من وحدة موقف يمكن التعويل عليها لمراحل لاحقة على وقع ما يحصل في غزة والجنوب.