إلى الذروة، وصل الصراع بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" على خلفية ملف التمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي يرفضه الأول بالمطلق، فيما حوّله الثاني إلى "قضيته"، ليتجلّى الانقسام "الفاقع" بين الحزبين المسيحيَّين الأكثر تمثيلاً، بوضوح في المؤتمرين الصحافيين لرئيسَيْهما جبران باسيل وسمير جعجع، اللذين استبقا اقرار التمديد في مجلس النواب، بالتصويب على بعضهما بعضًا بكل الوسائل المُتاحة، والتخوين على رأسها.
هكذا، وفي غمرة الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، والحرب المصغّرة المتفرّعة على جنوب لبنان، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام "عروض" عالية السقف، تخلّلها تبادل للاتهامات بين الطرفين، بدأها باسيل عندما صوّب على "القوات" التي "تنكّرت لمواقفها السابقة من موضوع التشريع بغياب الرئيس"، ليستكملها جعجع عندما نعت باسيل بـ"مصيبة الجمهورية"، متهمًا إياه بأنّه يقود ما وصفها بـ"المؤامرة" ضدّ التجديد لقائد الجيش.
وبين موقف باسيل وجعجع، اللذين لا يخفى على أحد رغبتهما بـ"توظيف" أزمة الشغور في قيادة الجيش لتسجيل النقاط على بعضهما البعض، وربما للبناء على ذلك في سائر الاستحقاقات، وضمنها انتخابات رئاسة الجمهورية، يصبح السؤال مشروعًا عمّن "يربح" في نهاية المطاف، ولكن قبل ذلك عمّا إذا كان هناك من "رابح" أصلاً، ولا سيما أنّ هناك من يعتقد أنّ كلاً من باسيل وجعجع خسرا "المعركة"، كلٌ في مضماره وعلى طريقته!
"تراجع" جعجع
بالنسبة إلى رئيس حزب "القوات اللبنانية"، فإنّ باسيل لا يريد التمديد لقائد الجيش لأسباب "شخصية"، قد يكون رئيس "التيار" غمز من قناتها في مؤتمره الصحافي الأخيرة حين تحدّث صراحةً عن "خيانة أمانة وقلّة وفاء"، وضمنًا عن "طموحات رئاسية" يبدو واضحًا أنّها تزعج باسيل، ولذلك فإنّه يتسلّح خلف "براغماتية ومبدئية مزعومة" لتبرير مغامرته باستقرار المؤسسة العسكرية، عبر تشريعها للفوضى والمجهول في مثل هذه الظروف الدقيقة والاستثنائية.
لكن خلف موقف جعجع هذا، الذي يبدو "براغماتيًا ومبدئيًا" هو الآخر، نقاط تسجَّل على أرض الواقع ضدّه، فهو "تراجع" عن كلّ مواقفه السابقة حول عدم جواز التشريع في ظلّ غياب رئيس الجمهورية، ولو برّر الأمر بـ"الظرف الاستثنائيّ"، ولا سيما أنّ "العونيّين" قدّموا بالصوت والصورة تصريحات لجعجع يؤكد فيها أنّ التشريع بغياب الرئيس "غير دستوري" تحت أيّ ظرف من الظروف، ويرفض المصادقة على مبدأ "تشريع الضرورة" وكأنّه مجرد "بدعة".
وإذا كان جعجع لم يكتفِ بالمشاركة بجلسة تشريعية عاديّة، بل ارتضى المشاركة في جلسة بجدول أعمال "فضفاض" لا تنطبق على أغلبية بنوده صفة "الضرورة"، بعدما وجد رئيس مجلس النواب نبيه بري في موقفه "فرصة" لضرب أكثر من عصفور بحجر، فإنّ ما يؤخَذ عليه أيضًا، في هذا المضمار، هو تحويله معركة قيادة الجيش إلى معركة "وجودية"، بدل استغلال الظرف للضغط من أجل إنجاز الانتخابات الرئاسية، لتنتظم المؤسسات الدستورية مع ذلك.
"مبدئية" باسيل
في سياق التصويب على "القوات"، ثمّة من يذكّر بموقف جعجع من جلسة التمديد للمجالس البلدية والاختيارية، حين بادر لاعتبارها "غير دستورية" شكلاً ومضمونًا، باعتبار أنّ البرلمان "هيئة انتخابية لا تشريعية"، وأيضًا باعتبار أنّ التمديد ليس حلاً، وأنّ إنجاز الاستحقاق يجب أن يأتي أولاً، لينقلب على موقفه ويصبح مؤيّدًا للتمديد لقائد الجيش، وهو ما قال باسيل إنّ الدافع إليه لم يكن سوى "النكاية" به وبـ"التيار الوطني الحر".
لكن في مقابل ما يقوله "التيار"، ثمّة من يقارب الأمر من الزاوية المعاكسة، فباسيل الذي يرفض اليوم التمديد لقائد الجيش لأسباب "مبدئية" كما يقول، ويعتبر أنّ مجلس النواب مارس "مخالفة قانونية"، كان من دعاة "التمديد" للمجالس البلدية والاختيارية، ومن خلال مجلس النواب، وفي الظرف نفسه، أيّ الفراغ في رئاسة الجمهورية، ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول حقيقة "مبدئية" الموقف الذي يتبنّاه رئيس "التيار".
في حساب الأرباح والخسائر، ثمّة من يعتبر أنّ "انقلاب" باسيل على موقفه يُقرَأ من زاوية أخرى، فهو يتحدّث عن "بدائل" يطرح تعيين الحكومة لقائد جديد للجيش، بعدما صوّر الأمر بأنه "خطيئة" في حاكمية مصرف لبنان. كما أنّ هناك من يعتقد أيضًا أنّ موقف باسيل من استحقاق قيادة الجيش يضرّ به على المستوى الشعبي، وذلك انطلاقًا من أنّ رئيس "التيار" يغلّب "مشكلته الشخصية" مع قائد الجيش، على "المصلحة العامة"، وهنا بيت القصيد.
في مقارنة المواقف بين التمديد لقائد الجيش اليوم، والتمديد للمجالس البلدية والاختيارية قبل أشهر، فضلاً عن طريقة مقاربة الشغور في مواقع حسّاسة أخرى، تظهر ما يحلو للبعض وصفها بـ"ازدواجية المعايير" لدى الأفرقاء، فما كان مقبولاً لطرف هنا، أصبح محظورًا هناك، والعكس صحيح. لعلّ هذه المقاربة تكفي برأي البعض، للتأكيد أنّ "لا رابح" بين جعجع وباسيل، بل إنّ الرجلين قد "خسرا معركة المبادئ"، بمعزل عن نتائجها العملية!