قد تنجح المساعي المبذولة، دوليًا وعربيًا، في التوصّل إلى هدنة إنسانية جديدة في قطاع غزة بعدما وصلت معاناة أهله إلى حدّ لم يعد مقبولًا، وقد لا تنجح. وهذا يعني في حال فشلت تلك المساعي أن آلة الموت الإسرائيلية مستمرة في زهق المزيد من الأرواح، وفي تدمير ما لم يهدّم من منازل ومستشفيات ودور عبادة بعد على رؤوس الملتجئين إليها للاحتماء من نار جهنم.
لا شيء مضمونًا في ما يمكن أن يُقدم عليه العدو، خصوصًا إذا كان يشعر بأنه "مزروك في زاوية" المواقف الدولية، التي باتت تطالبه بوقف مجازره ضد الأطفال والنساء والشيوخ والعجّز والمرضى. فـ "الهدنة الإنسانية" في غزة مطلوبة اليوم وفي كل الأوقات، ولكن ما هو مطلوب أكثر هو وقف فوري ونهائي للنار، بعدما تبيّن لبعض مناوئي سياسة نتنياهو أن العنف لم يحّل مشاكل اسرائيل الداخلية في الماضي، وهي بالتأكيد لن تكون وسيلة ناجعة لإيجاد حلول لهذا الكمّ من التناقضات، التي تعصف بالمجتمع الإسرائيلي المركّب والهجين.
في المقابل، فإن جبهة الجنوب المفتوحة على كل الاحتمالات ستتأثر إيجابًا في حال نجحت المساعي الدولية في فرض هدنة جديدة. أمّا إذا استمرّت الحرب الهمجية على غزة وسقطت كل المساعي الديبلوماسية فإن الجبهة الجنوبية ستتأثر سلبًا، خصوصًا بعد التحذيرات التي نقلتها وزير الخارجية الفرنسية كاترين كولونا للمسؤولين اللبنانيين مرّة جديدة وأضيفت إلى سلسلة التحذيرات الفرنسية المتلاحقة المتعلقة بنظرة باريس إلى ما يحدث على طول الخط الأزرق بعين القلق والريبة. وقالت لمن التقتهم في بيروت، بعد زيارتها تل أبيب، إذا غرق لبنان في الحرب فهو لن يتعافى والوضع خطير جداً".
ما حملته الوزيرة الفرنسية معها هذه المرّة لم يفاجئ الذين التقتهم في بيروت او حتى "حزب الله". إلا أن ذلك لم ينفِ خطورة ما يجري في الجنوب، وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الميدانية، التي بدأت تتوسع أكثر من ذي قبل، وكان آخرها الغارة التي شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على منطقة بوصليا الواقعة في منطقة بعيدة عن دائرة الاشتباكات. من هنا تأتي التحذيرات الفرنسية.
وفي رأي بعض المراقبين فإن ما أطلقته كولونا من تحذيرات هو بمثابة قرع لجرس الإنذار من احتمال انفجار حرب شاملة بين إسرائيل و"حزب الله". وأن أهمية كلامها هو أنه جاء بعد زيارتها المباشرة لتل أبيب. وهذا يعني أنها سمعت ممن التقتهم هناك كلامًا لا يطمئن في ما خصّ التهديدات الإسرائيلية بإبعاد "حزب الله" بالقوة عن الحدود اذا عجزت المساعي الديبلوماسية عن تحقيق هذا الهدف.
فجديد كولونا أنها حملت إلى اللبنانيين مباشرة ما كانت سمعته من الإسرائيليين. وهذا ما كان قد تبّلغه لبنان من الموفدين الأميركيين. لكن ما سمعته الوزيرة الفرنسية من كلام لبناني من تحميل إسرائيل مسؤولية ما يجري في الجنوب ومسؤولية تطور المناوشات إلى حرب شاملة جعلها ترفع من منسوب تحذيراتها، عندما قالت إنه اذا غرق لبنان في الحرب فهو لن يتعافى، والوضع خطر جداً.
حيال هذه المعطيات وجدت قيادة" حزب الله" نفسها أمام مهمة ليست سهلة، وهي الإجابة عن أسئلة محورية بدأت تطل برأسها أخيراً بإلحاح وسط القاعدة الجماهيرية للحزب وفي وسط بيئته الحاضنة التي ساورها القلق، وهي تتركز على جدوى فاعلية الدعم الذي دأب الحزب على تقديمه كفعل إسناد لغزة ومقاومتها التي تخوض مواجهة لا هوادة فيها مع آلة الحرب الاسرائيلية منذ ما يتعدّى السبعين يوماً. وهذا ما عبّر عنه بوضوح، وللمرة الأولى الوزير السابق وئام وهاب عندما سأل عن جدوى المناوشات الجنوبية.
فخلاصة ما جاءت به الوزيرة الفرنسية هي أن الأمور يمكن أن تسير بشكلٍ جيد ويمكن أيضاً أن تكون أيضًا سيئة. فالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا تضغطان لسحب مسلحي "حزب الله" إلى شمال نهر الليطاني، وبالتوازي فإن "الحزب" يواجه خيارات تتراوح بين الانسحاب أو مواجهة حرب حقيقية شاملة مع إسرائيل، مع إصراره على عدم الانسحاب من مواقعه، التي يعتبرها الحصن الدفاعي الأخير، وهي ورقة لن يتنازل عنها أيًّا يكن حجم الضغوطات التي يتعرّض لها.