خلف الحرب الدائرة في الميدان الغزاوي، وما يتخللها من إبادة جماعية وتهجير قسري بحق الشعب الفلسطيني، تدور حرب إقليميّة ودوليّة باردة، قد تنقلب إلى ساخنة وملتهبة في أيّ لحظة، فتشعل المنطقة والعالم. مسرحها البحر الأحمر وممراته المائيّة، حيث يحتشد عدد كبير من المدمّرات والسفن الهجوميّة البرمائيّة وحاملات الطائرات.
البحر الأحمر: الممر المائي الأهم والأخطر
تسعى الدول الكبرى لبسط نفوذها في تلك البقعة الجغرافية المائيّة لما لها من أهميّة عظمى في التجارة الدولية، كأكثر طرق الملاحة البحريّة الدوليّة حيويّة في العالم، بحيث تشكّل ممرًا استراتيجيًّا يربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويصل بين المحيط الهندي وبحر العرب جنوبًا، والبحر الأبيض المتوسط شمالًا. كما يشتمل البحر الأحمر على نقاط إستراتيجيّة عديدة، منها قناة السويس التي تعتبر مدخله الشمالي ونقطة التقائه بالبحر المتوسط، ومضيق باب المندب الذي يعدّ البوابة الجنوبيّة للبحر، والرابط بينه وبين خليج عدن والمحيط الهندي. تمر عبره مليارات الدولارات من السلع والإمدادات المتداولة سنويًا. ويتمتع بأهميّة جيوسياسيّة، كونه معبرًا رئيسيًّا لتصدير نفط الخليج إلى الأسواق العالميّة. كما يتمتّع بأهميّة عسكريّة وأمنيّة، ويعتبر ممرًا إستراتيجيًّا لحركة الأساطيل الحربيّة بين البحر المتوسط والمحيط الهندي وأفريقيا، وصولًا إلى الصين واليابان والمحيط الهادي. ونظرًا لإهميته الاستراتيجيّة، انتشرت على طوله قواعد عسكريّة لعددٍ كبيرٍ من البلدان.
"حارس الازدهار" لحماية أمن اسرائيل
تحاول ايران، من خلال تبيان قوة أذرعها في البحر الأحمر، ترسيخ دورها المتحكّم بالملاحة البحريّة. في المقابل تسارع الولايات المتحدة إلى استغلال هجوم الحوثيين على السفن القادمة من الموانىء الإسرائيليّة واليها لتعزيز هيمنتها على تلك البقعة الحيويّة، فتعلن عن تأسيس ائتلاف دولي "للتصدّي لهجمات الحوثيين، وحماية الممرات الملاحيّة في البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي" في 18 كانون الأول الماضي، تحت مسمّى "حارس الازدهار". يضم التحالف قوات من عشر دول، هي المملكة المتحدة وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا والبحرين، إلى جانب الولايات المتحدة.
الخطوة الأميركية لم ترق للقوى الدوليّة، خصوصًا أنّ تأسيس ائتلاف دولي بقيادة الولايات المتحدة يحمل هدفًا أكبر من مجرّد ردع هجمات الحوثيين، بل إحكام قبضتها على تلك الممرات المائيّة، ومن خلالها على طرق التجارة الدوليّة، متذرّعة بهجمات الحوثيين "لاسيّما وأنّ القراصنة الصومال لطالما مارسوا عمليات القرصنة في البحر الأحمر، وهدّدوا أمنّ الملاحة في تلك المنطقة، ولم تتحرك واشنطن لردعهم" وفق ما قالت مصادر عسكرية لـ "لبنان 24". أمّا اليوم فترى واشنطن أنّ الفرصة سانحة لبسط سيطرتها على تلك المنطقة، الأمر الذي يهدّد مصالح روسيا والصين وايران ودول أخرى"لاسيّما أنّ واشنطن سوف تستثمر نفوذها في البحر الأحمر في صراعاتها على المسرح الدولي. وقد تلجأ مستقبلًا، تحت حجّة معينة، إلى تفتيش بعض السفن العابرة من باب المندب. انطلاقًا من هنا لن تقبل الدول المتضررة بتكريس الهيمنة الأميركية على أهم ممرّ تجاري في العالم، وسيشكل ذلك تهديدًا، يفجّر صراعًا عالميًّا في البحر الأحمر، تبعاته أكثر خطورة من غزة" وفق توصيف المصادر عينها.
الصين تعزّز نفوذها العسكري في البحر الأحمر
تمثّل ممرات البحر الأحمر خطًا أساسيًّا للمشروع الصيني لإعادة رسم خريطة التجارة العالميّة المعروف بـ "طريق الحرير الجديد". لذلك عمدت الصين في السنوات الأخيرة لتعزيز نفوذها في المناطق الاستراتيجيّة على مستوى القارة الافريقيّة، من خلال انتشار القواعد العسكريّة، فكان افتتاح القاعدة الصينيّة في جيبوتي عام 2017، حيث شاركت بكين في محاربة القرصنة، ونشرت غوّاصات عسكريّة، وأقامت منصّات للتعامل والحوار مع دول البحر الأحمر على ضفتيها الشرقيّة والغربيّة (منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) ومنتدى التعاون الصيني العربي (CASCF)، ووسّعت من حجم مبيعات الأسلحة لدول حوض البحر الأحمر.
روسيا تصوّب على "حارس الازدهار"
تأتي روسيا في قائمة القوى المتضررة من الهيمنة الأميركية في البحر الأحمر، لذلك سارعت إلى التشكيك في شرعيّة عمليّة "حارس الازدهار"، وقال مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا في اجتماع لمجلس الأمن الدولي "ما يسمى بـ"التحالف البحري الدولي" الذي شكّلته واشنطن، على الرغم من اسمه المرتفع، يتكون معظمه من سفن حربية تابعة للولايات المتحدة نفسها، وشرعية تصرفاتها من وجهة نظر القانون الدولي تثير شكوكًا جديّة جدًا". وأضاف: "مهامنا اليوم لا تقتصر فقط على تأكيد الإشارة الجماعيّة حيال عدم جواز أفعال جماعة "أنصار الله"، بل أيضا تهدئة "الرؤوس الساخنة" في واشنطن، والذين يعتبرون الصراع الآخر في الشرق الأوسط مجرد جزء من لعبتهم الجيوسياسية".
دول عربية خارج "حارس الازدهار"
مسارعة الولايات المتحدة الأميركية إلى تشكيل تحالف دولي، بعد أيام قليلة على تعرّض التجارة الاسرائيليّة لهجمات الحوثيين، على رغم أنّ هجمات القراصنة استهدفت سفنًا وحاويات عدّة قبل حرب غزة، عزز الإعتقاد أنّ "حارس الازدهار" يهدف لحراسة ازدهار التجارة الإسرائيليّة وأمن اسرائيل البحري، خصوصًا أنّ الحوثيين أعلنوا أنهم لا يستهدفون الملاحة الدوليّة في المنطقة، باستثناء السفن التجارية المتجهة للموانئ الإسرائيلية، لذلك رفضت دول عربية عدّة، الانضمام إلى التحالف البحري ضدّ الحوثيين، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر، خصوصاً في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة.
مواجهة إقليمية في البحر الأحمر؟
انطلاقًا من المصالح الدوليّة المتشابكة والمعقّدة، في منطقة ذات أولوية استرتيجيّة، تتصاعد المخاوف من أن يُقابل الإئتلاف الجديد بتحالفات دوليّة أخرى، في نطاق "عسكرة الممرات المائية"، مما يهدّد بإعادة أجواء الحرب الباردة، لاسيّما وأنّ البنتاغون يدرس توجيه ضربة مباشرة إلى الحوثيين في اليمن، رداً على الهجمات المتصاعدة على السفن في البحر الأحمر. "وإذا ما تفاقمت حدّة المواجهات بين التحالف الجديد وأذرع ايران في المنطقة، ستكون المنطقة أمام مواجهة إقليميّة، قد تشعل مواجهة دوليّة كبيرة، عنوانُها حرب الممرات المائّية للسيطرة على الملاحة الدولية" ويبقى السؤال: هل المناوشات المندلعة بين الوكلاء في البحر الأحمر ستبقى منضبطة خلف الخطوط الحمراء، أم تتجاوزها لتشعل حربًا بالأصالة وصراعًا متفجّرًا بين الجبابرة؟