لا يخلو أي خطاب من خطب الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله من تأكيده على قوة الحقّ وحقّ القوة. فلقد بنى استراتيجية حزبه على هذه المعادلة القائمة على استرجاع أي حق بالقوة. ولذلك حرص على مراكمة "ترسانته" بالصواريخ الدقيقة والبعيدة المدى على مدى سنوات طويلة حتى أصبح يملك ما يكفيه من قوة دفاعية وهجومية هائلة تقلق العدو الإسرائيلي، الذي بات عليه أن يفكّر ألف مرّة قبل أن يقدم على أي خطوة أو مغامرة أو أي حرب على لبنان، لأنه يعرف أنه سيُواجه بقوة نارية غير مسبوقة ويُعتدّ بها.
فما أعدّه "حزب الله" من مفاجآت على الصعيد الميداني لا يُستهان به، بعدما أصبح قوة يُحسب لها ألف حساب، خصوصًا بعد الخبرات القتالية التي اكتسبها مقاتلوه في حرب سوريا وفي العراق واليمن. هذه الحقيقة يعرفها القادة العسكريون في إسرائيل، وهم ينصحون رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو بعدم التهوّر في حرب ستكون مكلفة بتوازي الخسائر البشرية والمادية في كل من إسرائيل ولبنان. وهذا ما يحسب له السيد نصرالله أيضًا ألف حساب.
فعلى الذاهب الى الحرب أن يقدّر ما يمكن أن تكون عليه النتائج المباشرة وغير المباشرة لأي خطوة غير مدروسة من كل جوانبها. وما ينطبق على إسرائيل ينطبق على "حزب الله"، إذ أن نتائج أي حرب ستكون مكلفة على المجتمعين الإسرائيلي واللبناني، ولن تقتصر أضرارها على بيئة "حزب الله"، وإن كانت معادلة "غوش دان"، التي تقصدّ نصرالله التلميح إليها في خطاب ذكرى اغتيال الجنرال اسم سليماني، تقابلها معادلة الضاحية الجنوبية، من حيث ما يمكن أن يلحق بهاتين المنطقتين في كل من إسرائيل ولبنان من أضرار جسيمة.
ما هو واضح حتى الآن هو أن كلًا من قيادة العدو الإسرائيلي وقيادة "حزب الله" يتهيبان الذهاب إلى حرب مدّمرة، انسانيًا واقتصاديا وعمرانيًا ومقدّرات وإمكانات. وهذا ما تكشفه المعطيات السياسية والميدانية، والتي بدأت تتبلور أكثر فأكثر لدى الجانب الإسرائيلي، حيث بدأ الخلاف بين نتنياهو وأخصامه السياسيين، حتى داخل "حكومة الحرب"، التي وحدّت التناقضات الحادّة والظاهرة بينهم لفترة وجيزة ما لبثت الخلافات أن طفت على صفيح هذه التناقضات. وقد يكون ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت للموفد الأميركي بأن إسرائيل تفضّل حلّ الصراع مع "حزب الله" بالطرق السياسية، خير دليل على أمرين، أولهما الخلاف الواضح بينه وبين نتنياهو في ما خصّ موضوع الحرب على لبنان، وثانيهما أنه بدأ يستشعر خطورة أي حرب قد تشنّها تل أبيب على لبنان.
أمّا من جهة "حزب الله" فإن استخدام نصرالله "إذا" الشرطية أكثر من مرّة في خطاباته يظهر مدى سير "حزب الله" في استهدافه المواقع الإسرائيلية المواجهة على طول الخط الأزرق بين نقاط "المصلحة الوطنية" ما دامت المواجهة محصورة بنطاقها الضيق المتعارف عليه بما يُسمّى بـ "قواعد الاشتباك"، التي لا تزال هي السائدة على الجبهة الجنوبية إلى حدود مضبوطة نسبيًا.
أمّا حديث نصرالله عن مخاطبة العالم "حزب الله"، من خلال لبنان الرسمي، بضرورة احترام القرارات الدولية، وأهمّها القرار 1701، ففيه بعض من التنكّر لدور لبنان الديبلوماسي، الذي حافظ طوال عهود من الزمن مع الرئيس كميل شمعون وشارل مالك وفيليب تقلا وفؤاد بطرس في الحفاظ أولًا على متانة علاقة لبنان بمحيطه العربي وعلى صداقاته الدولية، والحؤول ثانيًا دون تمكّن إسرائيل من استباحة لبنان في الشكل الذي تستبيحه اليوم، على رغم أن الاستفزازات الإسرائيلية للبنان لم تغب يومًا عن "اجندته" العدائية.
فـ "قوة لبنان الديبلوماسية" لا يُستهان بها، خصوصًا إذا كانت السياسة الخارجية للبنان واضحة المعالم وملتزمة كونه جزءًا لا يتجزأ من أسرته العربية وجسر تواصل بين الشرق والغرب. وهذه "القوة" لا تتناقض مع ضرورة أن يكون لبنان قويًا بما يمكّنه من فرض احترامه على الجميع، عدوًا كان أم صديقًا. وهذه القوة لا تكون فاعلة وحاضرة إلاّ إذا كانت مقرونة بوحدة داخلية لا تزال مفقودة.