كثيرة هي الأسئلة التي تطرأ على بال جميع اللبنانيين الذين لا يعرفون من أين تأتي كل هذه السيول والأمطار، التي هي في بلاد العالم نعمة فيما هي عندنا نقمة. فالطالع من الأرض أكثر من النازل من السماء. ومع كل هذه الخيرات "المي مقطوعة يا أفندي". والسبب غير المقنع هو أن غزارة المياه عوكرّت المصافي الرئيسية. ومع أن الموضوع يستأهل أكثر من تعليق وأكثر من موقف فإن أكثر ما يشغل بال اللبنانيين هذه الأيام في ضوء ما يسمعونه من تهديدات متبادلة بين إسرائيل و"حزب الله" هو إمكانية توسعة الحرب لتنتقل من الجنوب إلى كل لبنان المتروك بلا رئيس ولا حكومة كاملة الصلاحيات ولا مجلسًا نيابيًا مسموحًا له أن يشرّع حتى الضروري مما يتيح للحياة العامة أن تستمرّ إلى أن يحين موعد الافراج عن الرئيس الموعود والمنتظر، والذي من دونه سيبقى لبنان واللبنانيون معلقين في الهواء، ومعرّضين لكل أنواع التجارب.
وعلى رغم إدراك الجميع، في الداخل قبل الخارج، بأهمية أن يكون للبنان رئيس "معبّي كرستو" أو كما يُقال باللهجة المصرية "ملو هدومو"، وليس رئيسًا "كيف ما كان"، فإن لا مؤشرات او معطيات جديدة تلوح في الأفق عن قرب حل للأزمة الرئاسية مع استمرار تعنت أفرقاء الداخل وربط البعض هذا الاستحقاق المهم جدًّا بوقف الحرب في غزة، مع أن الأزمة الرئاسية كانت قائمة قبل عملية "طوفان الأقصى".
ويقابل التعنت الداخلي عدم وضوح الرؤية الخارجية وعدم نضوج أي حلّ لأزمة يجب أن يكون نابعًا في الأساس من الداخل، ولكن هذا الداخل المنقسم على نفسه غير مؤهل، على ما يبدو، ليحكم نفسه بنفسه، وهو لا يزال يحتاج إلى من يمسك بيده ويدّله على الطريق التي عليه أن يسلكها، خاصة أن "المهاور" على جانبيها كثيرة وعميقة.
ولأن هذا الداخل الذي لم يتخطّ بعد سن المراهقة السياسية فإنه من الطبيعي أن تتجه الانظار الى ما سيؤول اليه اجتماع اللجنة الخماسية الذي سيعقد على الأرجح مطلع الشهر المقبل، مع ما يمكن أن يسفر عنه لجهة إعادة تحريك كلّ من المبادرتين الفرنسية والقطرية، اللتين تلتقيان على أكثر من نقطة مشتركة بينهما، وأهمّها ضرورة الإسراع في إنهاء حال الشغور ونفض الغبار المتراكم عن الكرسي الرئاسي، خصوصًا أن الفرصة التي كان الرئيس بري قد تحدّث عنها لتحريك الملف الرئاسي مطلع العام الحالي لم تتوافر عناصرها بعد، وذلك بسبب عدم تلقيه اشارات أو مواقف ايجابية من اطراف سياسية عديدة، لا سيما الاطراف المعارضة أو المتحفظة عن الحوار التمهيدي للذهاب الى جلسات مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهورية، إضافة إلى رفض "حزب الله" البحث في الموضوع الرئاسي أو أي موضوع داخلي قبل جلاء صورة ما يجري في غزة.
فهذا الشغور مستمر مع ارتفاع منسوب المخاوف الأمنية، التي قد تنتقل في غفلة من الزمن من الجنوب إلى كل لبنان. فقبل الحرب على غزة وعلى الجنوب كانت الأزمة الرئاسية قائمة ومستمرّة، وكان هذا الانقسام العمودي بين فريقين ولا يزال محتدمًا، الأول يستطيب أن يُسمّى "معارضة"، والآخر لا يمانع في أن تُطلق عليه تسمية "الممانع"، وذلك نتيجة التجاذبات داخل البرلمان، التي وقفت عائقًا أمام المساعي الفرنسية والقطرية. أمّا النتيجة فواحدة وهي التعادل السلبي في التعطيل وترك البلاد من دون رئيس حتى إشعار لا أحد يعرف متى يحين موعده.
ففي الأوقات التي يُقال عنها "طبيعية"، أي قبل حرب غزة وما يتلقاه لبنان يوميًا من تهديدات إسرائيلية، سواء بغاراتها على القرى الجنوبية أو برسائلها السياسية المفخّخة، لم يتوصّل اللبنانيون عبر ممثليهم في الندوة البرلمانية إلى التوافق على إنقاذ بلدهم مما يتعرّض له يوميًا، من الداخل والخارج، عن طريق انتخاب رئيس لجمهوريتهم المتهالكة والمترنحة والمتآكلة. فكم بالحري في هذه الأوقات المربوطة مواقيتها ومواعيدها بمعاناة أهل غزة. فإذا كان الأمل في انتخاب رئيس قبل الربط بين غزة ولبنان متعذّرًا وشبه مستحيل، فإن إجراء هذا الاستحقاق اليوم هو أكثر من مستحيل في ظل النزاع الداخلي، الذي أضيف إليه عامل جديد، وهو الاختلاف على جدوى فتح الجبهة الجنوبية مساندة لأهل القطاع ومقاومتهم المتواصلة.
لذلك، فإن مقاربة الملف الرئاسي لم تعد كما كانت قبل بدء الاجتياح الإسرائيلي البري لغزة، بعدما أُلحق هذا الملف، وبقرار من "حزب الله"، بما سيؤول إليه الوضع العسكري فيها. كما أن مجرد الربط بين الجنوب وغزة يعني أن الظروف المحلية لانتخاب الرئيس لم تنضج حتى الساعة، وهذا ما يشكل تحدياً للجنة الخماسية.