لطالما كان الاقتصاد اللبنانيّ يعتمد على القطاع المصرفيّ بوجهٍ كبير، خصوصًا وأنّه عَمِد إلى جعله ملاذًا آمنا للأموال المحلّيّة والإقليميّة، إلّا أنّ هذا القطاع أُصيب بضربة في العقد الأخير، جعلته منهكًا، وهو الآن يبحث عن وسائل للتعافي، قبل أن يصل إلى مرحلة يكون بتر الكثير من المصارف أمرًا محتّمًا.
إنّ إحدى وسائل التعافي المصرفيّ عادةً تتمثّل بإعادة الهيكلة عن طريق تخفيض عدد المصارف التي أصبحت عبئًا على الحياة الاقتصاديّة والماليّة، وتُعيق إمكانيّة تعافي القطاع المصرفيّ والنهوض به عمومًا في لبنان. فقبل استفحال الأمور والوصول إلى حتميّة البتر بإلغاء بعض المصارف المتعثّرة، قد تشكّل عملية اندماجها عن طريق استحواذ المصارف الأكبر عليها، وسيلة وقائيّة استراتيجيّة تُتّبع في كثير من الأماكن، كي لا يستشري سرطان الإفلاس في جسم القطاع المصرفيّ.
تبرز أهمّيّة خطوات الاندماج والاستحواذ في أثناء عدم وضوح الرؤية الاقتصاديّة، والأزمة الماليّة الحادّة المشابهة. وقد ترى المؤسّسات المتعثّرة إمكانيّة النجاة في حال اندماجها مع مؤسسات أُخرى تستطيع التأقلم مع الصعوبات ومواجهتها. فهي بذلك، تساهم في الاستقرار العامّ للنظام الماليّ، وتنفيذ الإجراءات الوقائيّة التي تنخر في النظام المصرفيّ، وضمان استمراريّة الخدمات الماليّة.
إنّ أهمّ ما تهدف إليه هذه العمليّات، هو تخفيف التكاليف، وتحسين معدّل الأرباح، وهذا ما تصبو إليه المصارف عادةً. كذلك، فهي تقلّل من المخاطر العامّة عن طريق تنويع المحافظ الماليّة، وضمان توريد لمصادر أكثر توازنًا، وبالتالي تصبح أكثر مرونة في مواجهة تقلّبات السوق، واتّساع تواجدها فيه. كما تجد المصارف المندمجة القدرة في عمليات التفاوض بوجهٍ أوسع.
من ناحية أُخرى، نجد أنّ الاندماج مع البنوك المتقدّمة تقنيًّا، أو الاستحواذ عليها، يسمح للمؤسّسات بمواكبة التغيّرات التكنولوجيّة السريعة، ممّا يضمن تقديم الخدمات المبتكرة، وبقاء تلك المصارف في مقدّمة الخدمات المعروضة. وعلاوة على ما ذُكر، نرى أنّ المصارف المتعثّرة تستطيع في حال اندماجها الوصول إلى رؤوس الأموال المطلوبة، ممّا يضمن استمراريّتها.
في العقد المنصرم، فقدت سوق عمليات الاندماج والاستحواذ العالميّة ما يقرب من ثلثي قيمتها بسبب الأزمة الماليّة العالميّة والركود الاقتصاديّ. لكن، سرعان ما عاد التفاؤل إلى البنوك الاستثماريّة، فعرف هذا السوق حجم تداولات بتريليونات الدولارات.
في لبنان، واجه القطاع المصرفيّ عددًا كبيرًا من التحديّات في السنوات الأخيرة، كما ذكرنا. واستجابة لهذه التحديّات، يمكن أن تظهر عمليات الاندماج كوسيلة علاج للمصارف اللبنانيّة لتعزيز استقرارها، وتحسين مرونتها، وتكيّفها مع تطوّرات القطاع المصرفيّ. ولعلّ أهمّ مميّزات عمليات الاندماج والاستحواذ، تمكين المصارف اللبنانيّة في مواجهة الاضطرابات الاقتصاديّة، وخصوصًا انخفاض قيمة العملة المحلّيّة.
كما تُؤهِّل عمليات الاندماج البنوك على التكيّف مع تغيّرات الأطر التنظيميّة، والامتثال للتوجيهات الصادرة عن مصرف لبنان. إذ أنّ التعاميم الصادرة من مصرف لبنان قد تناولت مسألة اندماج المصارف. فتعامل تعميم مصرف لبنان رقم ١٤٣/٢٠١٧، مع مسألة إعادة هيكلة المصارف والمؤسّسات الماليّة، واعتمد عمليات الاندماج كوسيلة لإعادة الهيكلة، وتقديمه إطارًا تنظيميًّا للمصارف التي تسعى لتطبيق هذه التحرّكات العمليّة. كذلك يحدِّد التعميم ١٥١/٢٠١٩ المبادئ التوجيهيّة للمصارف من أجل مواجهة التحديّات المتعلّقة بالسيولة، والتعامل بالعملات الأجنبيّة. أمّا التعميم ١٥٤/٢٠١٩ فيشدِّد على ضرورة قيام المصارف اللبنانيّة بتعزيز حجم رؤوس أموالها.
من المتوقّع أن تستمر البنوك اللبنانيّة في خطّتها الّتي تهدف إلى خفض الالتزامات، والحفاظ على ميزانيّة عمومية إيجابيّة استعدادًا لإعادة الهيكلة المحتملة للقطاع المصرفيّ بما فيها عمليات الاندماج بين البنوك، أو استحواذ البنوك الكبيرة على البنوك الصغيرة والمتوسّطة. ولا بدّ من إصدار قانون خاصّ، يتخطّى الخلافات السياسيّة، ويتناول بعمقٍ هذه العمليات لتسهيلها، وجعلها أكثر جدوى، وفعاليّة من حيث التكلفة، ممّا يشجِّع مشاركة المستثمرين في جهود إعادة الهيكلة.
ختامًا، نلتمس رغبة قويّة داخل القطاع الخاصّ للنهوض من الأزمة الاقتصاديّة، وذلك باعتماده على تصميم اللبنانيّين واللبنانيّات ذوي الخبرة ومقدرتهم، وميل المستثمرين لِضخّ رؤوس الأموال في بلدٍ لا يعرف اليأس. وأكثر من ذلك، الاستفادة من الفرص الجديدة، وتعافي المصارف والمودعين الذين استُنزفوا ماليًّا، واقتصاديًّا، ونفسيًّا، فيكون "كَيّ" الاندماج، خير من "بَترِ" المصارف وإفلاسها. وتعود إليها مقدرتها الجوهريّة في إقراض المؤسّسات الاستثماريّة، والأفراد من أجل إنعاش الاقتصاد اللبنانيّ... ويبقى السؤال، هل تعود الثقة في قطاع مصرفيّ منهك مريض؟