"ما في رئيس غير رئيس المجلس".هذا الكلام لرئيس مجلس النواب نبيه بري بعد لقائه الثاني بوفد كتلة "الاعتدال الوطني" فما الذي قصده، وإن كان البعض ذهب في استنتاجاته إلى أبعد مما هو مقصود، خصوصًا أن هذا البعض يميل طبيعيًا إلى تفسيرات خاطئة لم تكن لترد في الأساس على بال قائلها؟
المقصود بكلام الرئيس بري واضح وضوح الشمس ولا لبس فيه، خصوصًا أنه جاء بعد لقاء كتلة "الاعتدال"، وبعد الجدل البيزنطي حيال هوية من سيترأس طاولة التشاور الحوارية. لقد قيل الكثير بهذا الخصوص، وأعطيت تفسيرات خاطئة للموقف الأولي لرئيس المجلس، الذي شجّع مبادرة "الاعتدال". فما قاله الرئيس بري في المكان والزمان المناسبين قاله لوضع النقاط على الحروف النافرة، ولتصويب المسار في ما يتعلق بأي جلسة تشاورية.
إذًا ليس المقصود ما حاول البعض "استثمار" حرفية الكلام وأخذه إلى غير مكانه الطبيعي وعدم التركيز على جوهره، فحرّف مقصده وشوهّت مراميه. فتعبير "ما في رئيس غير رئيس المجلس" لا يعني أن الرئيس بري قصد رئاسة الجمهورية عندما قال "ما في رئيس"، وهو الذي يعرف الأصول البرلمانية، ويعرف أيضًا حساسية التوازنات الطائفية في بلد متعدّد وغير متجانس في الخيارات والتوجهات والارادات.
لكن محاولة البعض أخذ هذا الكلام بحرفيته إلى غير مكانه الطبيعي فيها الكثير مما ستكشفه الأيام لجهة النوايا الصافية بالنسبة إلى الجلسات التشاورية، سواء إذا ترأسها الرئيس بري أو نائبه أو كبير السن من بين النواب، وعندها ستنكشف حقيقة كل طرف، وسيُعرف عندها من يريد حصول الانتخابات، أيًا تكن نتائجها، ومن يسعى إلى تعطيلها.
في المقابل، فإن من فهم كلام بري بحرفيته، أي "ما في رئيس"، يعتبرون أنه كان الأجدى عدم ترك الكلام غير واضح ويكتنفه الغموض والالتباس. وهذا ما دفع إلى استنتاجات طبيعية في مثل هذا الظرف، الذي يعيش فيه العباد والبلاد على أعصابهم، وأن أي كلمة قد تُقال من هنا أو هناك قد يعطى لها أكثر من تفسير، خصوصًا إذا كان في هذا الكلام بعض من الغموض.
ويعترف هؤلاء بأنهم ذهبوا بعيدًا في تفسيراتهم، ولكن هذا لا يعني أن ما قيل لم "ينقّز" كثيرين للوهلة الأولى، لأن قائله هو الرئيس بري وليس أي مسؤول آخر، وهو الذي يضع مفتاح البرلمان في جيبه، وهو القائل إنه لن يدعو إلى أي جلسة انتخابية قد تكون شبيهة للجلسات الاثنتي عشرة السابقة، والتي لم ينتج عنها انتخاب رئيس للجمهورية، من دون الدخول في جدلية تعطيل النصاب وعدم الذهاب إلى جلسات مفتوحة ومتتالية. وهذا الجدل قد يقود في نهاية المطاف إلى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع من دون التوصّل إلى أي نتيجة، وسيكون له تداعيات سياسية غير مرغوب فيها.
فكلام بري، في رأي كثيرين، صوّب البوصلة، وحسم الجدل بالنسبة إلى الجهة التي ستدعو إلى الجلسات التشاورية والحوارية وفق مبادرة كتلة "الاعتدال الوطني"، ومن سيترأسها ويديرها. ولكن يبقى ما هو أهمّ من كل هذه الشكليات هو ما يمكن استنتاجه لجهة استعداد الجميع للذهاب إلى هذه الجلسات بهدف التوصّل إلى خيارات توافقية ووسطية بعد أن ينزل الجميع من على شجرات مواقفهم السابقة، وبعد أن يتخّلوا عن مرشحيهم والتوافق على رئيس لا يستفز أحدًا، لا "الثنائي الشيعي" ولا "المعارضة المسيحية"، خصوصًا بعدما تبيّن للجميع، وفق التركيبة الحالية للمجلس، استحالة قدرة أحد على فرض مرشحه حتى بقوة الدستور. فأي رئيس لا يحظى بشبه اجماعي توافقي لن يستطيع أن يحكم أو أن يدير "لعبة" التوازنات والتناقضات في مرحلة مفصلية من تاريخ لبنان المهدّد في كل لحظة للسقوط أمام التجارب.