لكثرة انشغالات اللبنانيين بأمور حياتهم اليومية، مع ما يرافقها من صعوبات ومشقّات كثيرة، لم يعد في مقدورهم التمييز بين ما صواب وما هو خطأ، ولم يعد يستطيعون استيعاب ما الذي يجري من حولهم من أحداث قد لا تكون بعيدة عمّا يُخطّط لهم في كواليس الغرف السوداء من مشاريع قد لا تصب في نهاية الأمر لمصلحتهم في المديين القريب والبعيد.
فالحرب الدائرة في الجنوب، وهي آخذة في التصعيد التدريجي والممنهج، رُبط مصيرها بمصير قطاع غزة في ضوء ما يمكن أن تقدم عليه إسرائيل في رفح استكمالًا لمخططها التهجيري بعدما سقطت كل المحاولات لوضع حدّ لهذه الحرب الهستيرية، التي يقودها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، مع ما يخشاه البعض بأن تنحو الحرب، التي لا تزال محصورة في الجنوب إلى أبعد من ذلك، مع العلم أن القرى التي تتعرّض للاعتداءات اليومية قد أصبحت أثرًا بعد عين.
إلاّ أن ما يمكن اعتباره بصيص أمل في عتمة المآسي التي تحيط باللبنانيين من كل حدب وصوب هو أن لدى لبنان أصدقاء كثرًا، وهم يحاولون بشتى الطرق مساعدته لتجنيبه المزيد من العثرات، ولإخراجه من عنق الزجاجة. ومن بين هؤلاء الأصدقاء تأتي فرنسا في الطليعة. وهذا ما يلمسه جميع الذين يزورون العاصمة الفرنسية هذه الأيام، حيث يبدي الرئيس الفرنسية ايمانويل ماكرون اهتمامًا متزايدًا بلبنان وقضاياه الشائكة، مستفيدًا من أخطاء سابقة أدّت إلى تعثّر بعض المساعي نتيجة بعض التقديرات الخاطئة.
ولتبيان هذا الاهتمام الفرنسي المتزايد بلبنان وقضاياه يوفد الرئيس ماكرون وزير خارجيته ستيفان سيجورنيه، في زيارة هي الثانية له في إطار الجهود الفرنسية والأميركية المشتركة لإبعاد شبح الحرب عنه، وذلك عن طريق تعويم الحل الديبلوماسي الهادف إلى الضغط على جميع الأفرقاء المعنيين بالحرب الدائرة في الجنوب، أي إسرائيل و"حزب الله"، لكي يتجاوبا مع الدعوات لتطبيق القرار 1701، في ضوء ما جاء في الورقة الفرنسية مع تعديلاتها، التي فرضتها الظروف الأخيرة، والتي لا تزال قيد الدرس والتدقيق والمراجعة، خصوصًا أن بنود هذه الورقة قد تمّت مناقشتها بالتفصيل في الساعات الثلاث، التي أمضاها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في قصر الاليزيه". ويُعتقد أن التعديلات التي ستُدخَل على بنود هذه الورقة والتي ستأخذ في الاعتبار الهواجس اللبنانية ستلقى تجاوبًا متقدّمًا من قِبل "حارة حريك"، التي لا تزال تربط أي تطور جنوبي بمدى نجاح الضغوطات الدولية على إسرائيل لوقف حربها على غزة، وعدم السماح لها بدخول رفح، مع ما يحيط بهذا المعطى من مخاطر كبيرة سيكون لها انعكاسات سلبية على الوضع القائم في الجنوب اللبناني.
إذًا، الكرة الفرنسية هي الآن في المرمى الإسرائيلي طالما أن "حزب الله" يربط مدى تجاوبه مع المبادرة الفرنسية بما يمكن أن تحقّقه من نتائج فورية لوقف الحرب في غزة ومنع اجتياح رفح. وهنا يأتي دور الولايات المتحدة الأميركية في ضوء التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية، والتي اجتاحت جامعاتها، كمؤشر يمكن التأسيس عليه في المراحل المتقدمة من المفاوضات المصحوبة بضغط أميركي على إسرائيل من جهة، مع تكثيف المحاولات الفرنسية لإقناع "حزب الله" بالسير بهذه الورقة. فهل سيتمكن الوزير الفرنسي بالتوافق مع الرئيس بري من إعادة الاعتبار للحل الدبلوماسي، وأين يقف "حزب الله"، وما مدى استعداده لفتح الباب أمام تطبيق القرار 1701؟.
قد يستغرق الأمر وقتاً للاقتناع بأن الحراك الفرنسي في المنطقة ولبنان سيكون له التأثير المتأني، خصوصًا مع انشغال الولايات المتحدة الأميركية بانتخاباتها الرئاسية، مع أن ثمة موعدين فاصلين بالنسبة إلى الديبلوماسية الأميركية العاملة في المنطقة، وهما: عملية "حماس" والرد الإيراني، إذ أن لكليهما انعكاسًا مباشرًا على السياسة الأميركية في المنطقة ولبنان. وعلى رغم أن واشنطن حاضرة بقوة في المنطقة، إلا أن الواقعية تقضي بعدم توقع استراتيجيات طويلة الأمد، في مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية.