في 1-6-2024، عُقد مؤتمر "حركة التجدد للوطن" تحت عنوان من "لبنان الساحة... إلى لبنان الوطن" وقد كانت للنائب علي فياض مداخلة استحوذت على اهتمام رجال الفكر والسياسة لأنها فتحت نقاشاً حول هواجس الطوائف والضمانات(نص المداخلة في آخر المقال)
الحلقة الثالثة مساهمة الوزير السابق سليم جريصاتي في مناقشة مداخلة فياض.
يقول الوزير السابق سليم جريصاتي، استمعت إلى مداخلة النائب الدكتور علي فياض القيّمة والتي تتجاوز البعد الاكاديمي البحت الى كل الدلالات في ما يختص بموقف "حزب الله" من المسائل الحساسة والمطروحة على الساحة السياسية اللبنانية، سواء منها القديمة الجديدة والمقصود بناء الدولة واستكمال تنفيذ "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" (اتفاق الطائف)، إن لجهة ما أدرج من مبادئها وأحكامها في مقدمة الدستور ومتنه أو لجهة ما اعتبر منها بمثابة "تعهدات وطنية" لا تحتمل الأنكار والنقض، وأيضاً المسائل المستجدة بعد حرب غزّة ودخول "حزب الله" طرفا فيها من جنوب لبنان، ما عمّق هوة الخلاف حول السلاح المقاوم ووظيفته من خارج إطار الدولة وقرارها بالحرب والسلم الذي يتولاه مجلس الوزراء حصراً على ما ورد في المادة 65 من الدستور. وإن ما زاد الهوة اتساعاً فراغ السدّة الرئاسية وتأييد تصريف الأعمال وأحادية مرجعية قرار الحرب الذي أطّر بالمشاغلة والمساندة.
ويضيف جريصاتي: تضمنت مداخلة النائب فياض، مقاربة لما أسماه هواجس الطوائف والضمانات، تلك الهواجس التي بقيت على حالها من التوجس بغياب الضمانات التي يجب أن تأتي من الطوائف نفسها والتي لا نجد أثراً لها في الدستور والوثيقة على ما قال، في حين أن هذين المرجعين الساميين قد أشارا إلى السبل المؤدية إلى إزالة هذه الهواجس إن أحسنّا جميعا سلوكها وعقدنا النية الصادقة على ذلك. ففي البداية كان الدستور، وقبل تعديله الأحدث كانت الوثيقة، وفيهما كل مباني السيادة الوطنية ومعانيها، تلك السيادة التي هي من أقانيم الدولة، كل دولة. أما في ما يخص المرحلة الانتقالية التي نص عليها كل من اتفاق الطائف والدستور المستقى منه في مادته الـ 95، فصحيح أننا لا زلنا في دائرتها ونعاني من أننا لم نخرج بعد منها، على ما دعانا إليه دستورنا وميثاق عيشنا المشترك الذي لا شرعية لأي سلطة تناقضه، إلا أنه ليس من الضروري أن تواكب هذه المرحلة هشاشة تصل إلى حدود اضمحلال الدولة، ذلك أن كل مرحلة انتقالية تعني أن ثمة انطلاقة من موضع ثابت إلى موضع ثابت آخر بالمفهوم اللغوي وبالمفهوم القانوني أيضا. لذلك إن ما أتت عليه المادة 95 من الدستور من حالة مرحلية إنما انطلق من مجلس نواب منتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وهذا ما حصل، وإن كنا نطمح إلى مجلس نواب منتخب على أساس وطني في نهاية المطاف، على ما سوف تنتهي إليه الحال المرحلية والانتقالية، ما يعني أن الدولة هي البداية والنهاية.إن مجلس النواب هو الذي تنشأ عنه كل سلطة وهو السلطة الدستورية الأكثر التصاقاً بإرادة الشعب الذي هو مصدر السلطات وصاحب السيادة والذي يمارس السلطات تلك والسيادة عبر المؤسسات الدستورية، ومنه، وبعد انتصافه بين المسلمين والمسيحيين، انطلقت المرحلة الانتقالية التي لا زلنا نعيش في ظلها. ان الهشاشة في منظومة الدولة اسبابها في سياق آخر تماما.
وهذا يعني، بحسب جريصاتي، أن المرحلة الانتقالية تلك بدأت من موقع الدولة وسلطة محورية فيها، كما وضع أسسها ومبادءها وأنماط الحكم فيها دستورنا في مقدمته ومتنه، ما لا يمكننا معه أن نخلص إلى أننا ما زلنا في حال من الفراغ أو العدم أو في حال من انعدام الوزن والاستقرار بسبب هذه المرحلة الانتقالية وطالما لم نبلغ الخواتيم المرجوة على ما جاء توصيفها وتبيان آليات بلوغها في متن دستورنا. والصحيح الأصح أن هذه المرحلة الانتقالية لم تبدأ بعد طالما أن مجلس النواب لم يتخذ الإجراءات الملائمة لالغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية لاقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية ومواكبة تنفيذ الخطة المرحلية.
إن ما يحتاج اليه الدستور، كما يؤكد جريصاتي، هو، قبل كل شيء آخر، حسن تطبيق واستكمال تنفيذ ما ورد فيه والوثيقة، وذلك ليس فقط لإجراء عملية تقويم ولكن أيضاً لبلوغ هذه الخواتيم التي لا خلاص لعيشنا المشترك من دونها. من هنا الدعوة، التي كنت أرغب صادقاً في أن أجد أثراً لها ساطعاً في كلام نائب من النخبة تسمو لديه بنات فكره النيرات غرائزه، إلى الالتصاق بمشروع الدولة التي يجب بناؤها سوية، تلك الدولة التي قال هذا النائب نفسه في خاتمة مداخلته أنها هي المرام والهدف والتي يجب أن يتفق عليها اللبنانيون وعلى روافد قوتها ومنعتها ومناعتها.
ويقول جريصاتي: إن ما أعنيه هو أن المرحلة الانتقالية تلك إنما تنطلق من الدولة أو مفهوم الدولة على أساس ممارسة السلطة من مختلف السلطات الدستورية بشكل كامل ومنسق ومتوازن ومتعاون في آن، وهذا مبدأ من ركائز النظام الديمقراطي البرلماني الذي هو النظام الذي ارتضيناه معا عندما جعلنا ميثاق عيشنا المشترك حجر الزاوية في كياننا. ان الدولة المنشودة لا تكتمل أقانيمها وعناصر قوتها ولا يصلب بنيانها إلا بتجاوز المرحلة الانتقالية التي يجب أن تصب حكماً في ما اعتبره الدستور ذاته هدفاً سامياً ألا وهو إلغاء الطائفية وليس فقط الطائفية السياسية. ان الغاء الطائفية يعني أن نترك فاصلاً بين الدولة والسلطات فيها من جهة، وبين الدين من جهة أخرى، ولكن من دون أن يعني ذلك التنكّر لأي دين بل بالعكس التشدد في حماية المعتقد والشعائر الدينية إلى أبعد الحدود.
إن الدور المؤثر للدين والطائفة والمذهب يجب أن ينحسر يوما عن مفاصل السلطة، وليس بالضرورة عن أعلى هرمها الثلاثي لرمزيته دينياً وليس مذهبياً في الدولة اللبنانية، التي تصبح حينذاك دولة ضامنة لحقوق أطياف الشعب اللبناني والموجبات، يقول جريصاتي، فننتقل من أن نكون مجموعة شعوب وطوائف تعيش تحت سماء واحدة وتتحكم فيها مشاعر الخصام والتشتت والتبعية والالتقاء النفعي الذي لم يرتق يوماً إلى مسار العيش الواحد في كنف دولة مركزية قوية، إلى شعب واحد، على تنوعه، ومتماسك وممسك بناصية مصيره. إن معايير الكفاءة والاختصاص والجدارة في الوظائف العامة ترفد الدولة العميقة بأساليب القوة وسمو القانون ما عداه من اعتبارات.
أما الحقوق الاساسية والحريات العامة والخاصة على أنواعها، فهي مصانة في دستورنا، ولن تجد سبيلاً إلى الحماية والضمانة المطلقتين إلا من خلال قضاء مستقل ومتحرر من الطائفية والتبعية السياسية والارتهان والترغيب والترهيب.
ثمة من قد يقول إن في الأمر مبالغة أو شيئاً من التنظير البعيد كل البعد عن أرض الواقع، في ظل مجتمع لبناني تفتك به أوبئة سامة، تبدأ بالخوف ولا تنتهي بالغبن، وكنا قد اعتقدنا، بحسب جريصاتي، في يوم مضى أننا انتهينا من هذه المعزوفة بمجرد ان توافقنا في الطائف على قواعد عيشنا المشترك وتطويرها عند الاقتضاء، إلا أن الشعوب الحية والحالمة بمستقبل أفضل ورغد عيش ورخاء وحرية ودولة راعية وضامنة ابسط الحقوق، إنما تعبّرعن ذلك في صناديق الاقتراع، والادلة على ذلك حديثة وساطعة، وإن كان بعض المجتمعات الديمقراطية أكثر تماسكاً وطنياً من مجتمعنا. فلنحدّث قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب في هذا الاتجاه حفاظاً على صدقية الاقتراع والتعبير الأصدق عن إرادة الشعب.
ويقول جريصاتي إن مجرد الخروج من الجمود والتحرك بثبات لاعتماد الاليات التي تعزز مفهوم الدولة الذي ارتضيناه في الطائف، وهو قابل للتطوير في ظل تبدل الظروف والمصلحة الوطنية العليا، إنما يوجد مناخاً تنبثق منه الحلول لكل أزماتنا، أو معظمها، فنخرج من دوامة الهواجس والضمانات، حتى أنه يمكننا، في ظل هذا المناخ الخلاق، أن نطرح مسألة السلاح المقاوم،على أقله لجهة وظيفته التكاملية مع الدولة، على ما أتى في مداخلة النائب فياض، طالما أن هذا السلاح لا يزال موضع انقسام وطني خطير، زادت من خطورته المحاولات الجهيضة لوضع استراتيجية دفاعية يندرج هذا السلاح في سياقها، فتستكين في ظله النفوس وتجف جذور التوجّس والترقّب والتشرذم والاحتكام إلى العنف والاستتباع للخارج والأهواء التي لا يستقيم معها وطن حر ومستقل وسيد وشعب مقاوم كل غطرسة واستبداد واعتداء. إن عدونا غاشم وغادر وقاتل وسالب أرضنا وثرواتنا ومستبيح كرامتنا الوطنية وهادم سلم القيم الانسانية وهاتك المواثيق والمبادىء والاعراف الدولية، ما لا يحتمل معه أي تردد من الجماعة اللبنانية، كل الجماعة، في مواجهته وردعه.
ويبقى ان نسأل وفق جريصاتي، ولم يسأل المحدث، أين الرئيس من كل ذلك، هذا الذي أولاه دستور الطائف موقعاً ودوراً ورمزية، وهي خصائص تتكون فيها ومنها كل الضمانات طالما أحسن الحكم مقاربة الأمور المصيرية وحرص، وفقاً لقسمه، على احترام دستور الأمة اللبنانية والقوانين والسهر على استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه؟ خصائص اندثرت ولم يأبه بها أحد، فارتعدت فرائص الطائف واهتزت أعمدة البنيان اللبناني بدليل الحال التي وصلنا اليها، وأكمل المسؤولون عن هذه الجريمة الوطنية، بكل ما لهذا التوصيف من معان وتداعيات، إدارة شؤون الدولة بما تيسّر. فكيف لنا، في ضوء ما سبق، أن نقارب القرار الدولي 1701 وضرورة التقيد به وتفادي الاخفاقات ووضع حد للخروقات وإعادة التوازن إلى مندرجاته لتحصينه؟ وكيف يمكننا أيضاً مقاربة أزمة النزوح السوري وتداعياتها وأخطارها على وطن الأرز؟ وكيف يمكننا أيضاً وأيضاً إعادة الثقة إلى المودع والمستثمر والسائح في بلد سمي يوما سويسرا الشرق؟
بديهي القول، وفق جريصاتي، إن على كل طيف قوي من أطيافنا، في مرحلة ما من حياتنا العامة، أن يرفد الدولة بقوته، وأن لا يقوضها ويتفّه مواقعها ورموزها، وأنا لست في موقع اتهام بقدر أني في الموقع الراصد لواقع الأمور، والأمر لا يحتاج إلا إلى التمسك بالدولة المركزية القوية على ما أتى في "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" والإقدام على الإصلاحات الواردة فيها، ولعل أبرزها اللامركزية الإدارية الموسعة ومجلس الشيوخ والسلطة القضائية المستقلة تماماً وكمالاً وإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية وتمكينها من نيل هذا الإنجاز السامي، وصولاً إلى سنّ قانون انتخاب على أساس وطني، فلا يشعر أحد منا أنه مغلوب على أمره في وطنه وأن دوره ووجوده مهددان، طالما أن الوجود مرتبط دوماً بالدور، فيستكين الشعب وتزول عنه غمّة القلق على مصيره. إن مرحلة الوعي السياسي، لا بل الوعي الوطني، لا يمكن بلوغها إلا بعقلنة المقاربات والحلول أو بالحكمة أو للاسف بالانهاك، وقد أصاب الانهاك جميع أطياف الشعب اللبناني .
وإذا كان لا بد من أن ننهي بالبعد أو المعطى الاقليمي وتأثيره على وطن الارز، فإنه من المؤكد، بحسب جريصاتي، أن هذا التأثير لن يكون بالقوة ذاتها والاستتباع ذاته والضرر ذاته في ظل دولة مركزية قوية بالمفهوم الذي أشرنا اليه، ذلك أن عوامل التشتت والتبعثر وانهيار منظومة الدولة إنما هي عوامل جذب للاقليم وحساباته ورهاناته إلى وطننا وتداخل عكسي في المصالح والايديولوجيات، فنذهب إليه ويأتي إلينا ونذوب فيه ويذوب فينا، حتى إن لجأ أو نزح إلينا، أصبح الخطر محدقاً بنا وجودياً على ما هي الحال في الداخل وفي المخيمات وعلى الجبهات، وإن ذهبنا إليه عقدنا مصيرنا بمصيره برابط دموي، وفقدنا مقومات خاصيتنا الوطنية وجمالية تنوعنا.
المداخلة
وكان النائب علي فياض اعتبر في مداخلته أن سياسة إنكار الهواجس الكبرى للطوائف، لا تجدي نفعاً، أكانت هذه الهواجس صحيحة أم كانت وليدة الوهم والمبالغة، لأنها في كلتا الحالتين، هي ذات أثر واقعي من حيث المواقف والسلوك. لذلك، من وجهة نظرنا يجب التعاطي معها كهواجس واقعية، على أن يتركز الجهد البناء على مناقشة أطر المعالجة وأدوات الحلول. ورأى أن هاجس الطائفة السنية هو حماية اتفاق الطائف الذي أعطى موقعاً متميزاً لرئيس الحكومة، أما الهاجس الدرزي، فهو حماية الدور في خضم الاضطرابات والتحولات الكبرى، في حين أن الهاجس المسيحي، هو حماية الوجود واستعادة الصلاحيات في ظل مسار التضاؤل الديموغرافي، أما الهاجس الشيعي، فهو مواجهة الكيان الصهيوني، لأسباب وطنية وأيديولوجية. ويعتبر فياض، أن الواقع، في بعديه الداخلي والإقليمي، هو أكثر تعقيداً من أن يعالج بنوايا حسنة، إن الاكتفاء بالنوايا الحسنة هو اختزال ساذج لآتون ملتهب من التعارضات في الرؤى والتطلعات وفهم التحديات والأهداف والمصالح لكنه على اللبنانيين أن يواجهوا الأسئلة الحقيقية التي يهربون من مواجهتها منذ عقدين من الزمن، والتي تتصل بالأسباب العميقة لعدم استقرار كيانهم الصغير، وتحوّل هذا اللا استقرار إلى صفة ملازمة لحياتهم السياسية وشؤونهم الدولتية والمجتمعية.
واعتبر أن الدستور اللبناني، في المادة 95 يسمي المرحلة التي نعيش دستورياً في ظل أحكامها الراهنة، بأنها مرحلة انتقالية. ورغم أن الطابع الانتقالي جرى ربطه بغياب تطبيق الإصلاحات السياسية الجذرية فإنني من الذين يعتقدون بأن الطبيعة الانتقالية إنما تتصل بكل ما يرتبط بمقتضيات الدولة في بعديها الداخلي والخارجي، أي النظام السياسي والموقع الجيوستراتيجي.