قد يكون من المبكر الحكم مسبقًا على نتائج "حرب الاسناد"، التي بدأها "حزب الله" انطلاقًا من الجنوب، الذي يتعرّض منذ عشرة أشهر لأبشع أنواع القصف المدمّر، مع ارتفاع متزايد لعدد الشهداء الذين يسقطون في صفوف "المقاومة الإسلامية" أو من بين المدنيين من أبناء الجنوب الصامد في وجه العدو. ولكن ما يمكن الحكم عليه هو الأسلوب الذي يعتمده الأمين العام لـ "الحزب" السيد حسن نصرالله في طلاّته العلنية لجهة التركيز على الوضع المنهار في الجانب الإسرائيلي، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا ومعنويًا ونفسيًا. ويمكن لأي مراقب حتى ولو لم يكن من مؤيدي ما تتخذه "حارة حريك" من خيارات وخطوات متقدمة أن يلاحظ مدى تأثير هذا الكلام المستند إلى معلومات موثقة ومدّعمة بأرقام وحيثيات وإحداثيات من الصعب عدم تصديقها، وهي تفعل فعلها من دون أي شك داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي يعرف كيف يحاسب المسؤولين فيه على أخطائهم وخياراتهم وقراراتهم غير الموفقّة من حيث مفاعيلها ونتائجها.
وبحسب الصحافة الإسرائيلية فإن معظم الإسرائيليين على مختلف مستوياتهم يتابعون وقائع كلمات نصرالله التي تبث مترجمة بالمباشر باللغة العبرية، مع العلم أن كثيرين منهم يتقنون اللغة العربية، وبالتالي هم لا يكتفون بالاستماع إلى ما يقوله، بل يسعون إلى مقاطعة كلامه مع ما يمكن أن يتوافر لهم من معلومات عن حقيقة صدقية هذا الكلام، وهم يأخذونه على محمل الجدّ، خصوصًا أن قسمًا كبيرًا منهم بات يتأثر بما يرد في خطابات "السيد" من حقائق ومعلومات.
وهكذا يكون "حزب الله"، الذي نجح في ما يبثّه من فيديوهات عن مهمة "هدهد1" و"هدهد2" عن أكثر المناطق الإسرائيلية الاستراتيجية والحسّاسة، قد أصاب أكثر من هدف بحجر واحد، باعتبار أن طلاّت نصرالله باتت مدروسة من حيث التوقيت والمضمون، وهي موجهة في الأساس إلى الداخل الإسرائيلي بشقيه السياسي – العسكري والشعبي، وكذلك إلى الداخل اللبناني بشقيّه الشيعي وسائر المكونات غير المنتمية إلى بيئة "حزب الله".
وفي رأي علماء النفس فإن خطابات نصرالله قد تصيب في أماكن معينة، وقد لا تصيب في أماكن أخرى. ومن بين الأماكن التي تحقّق فيها هذه الكلمات إصابات مباشرة هي أولًا البيئة الإسرائيلية بكافة مستوياتها، ولكن بفروقات متفاوتة في المقاربة وردّات الفعل.
ثانيًا، البيئة الشيعية الحاضنة لـ "المقاومة الإسلامية"، وهي المؤهلة أكثر من غيرها للتفاعل مع كلام "سيد المقاومة"، الذي يطمئنهم إلى ما هو صائر إليه حالهم بعد تحقيق الانتصارات، الأمر الذي يزيدهم اندفاعًا في ساحات القتال والجهاد، مع ما يعطيهم من دفع منشّط من المعنويات، خصوصًا عندما يتحدّث عمّا لدى "الحزب" من فائض لقوة رادعة في الميدان. وقد جاء كلامه الأخير ليصبّ في هذه الخانة عندما تحدّى القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل في ما ينتظرهما من مفاجآت إذا قرّرتا القيام بأي مغامرة في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني.
في المقابل، فإن ردود الفعل على كلام نصرالله لدى البيئات اللبنانية غير الشيعية وغير تلك التي تدور في الفلك السياسي لـ "حزب الله" تفاوتت بين من رأى فيها إقرارًا بواقع ما يمكن التوصّل إليه في مفاوضات الدوحة، ووضعوا كلامه في خانة الاستباق المحتمل لما يلي وقف الحرب في غزة بما في هذا الكلام من إقرار بالأمر الواقع المحسوم في الحسابات الإقليمية والدولية.
أمّا الذين لم يوافقوا في المبدأ على إقدام "حزب الله" على فتح جبهة الجنوب الاسنادية لم يغيّروا نظرتهم إل هذه الخطوة، التي يعتبرون أنها أدخلت لبنان كله في متاهات التهديدات المتبادلة، وذلك من أجل هدف غير معلن، وهو بالتأكيد ليس مساندة أهل غزة، الذين لا يزالون يعانون الأمرّين، إذ أن "حرب الاسناد" لم تمنع إسرائيل من مواصلة حربها التدميرية، بل زادت ضراوة ووحشية. وهذا دليل كاف على أن أهداف "حزب الله" بفتحها الجبهة الجنوبية ليس لها أي علاقة بمساندة الغزاويين انما بتقديم خدمات مجانية لإيران في "حربها الباردة" في المنطقة.