أخيرًا، انتهت الحرب الإسرائيلية "الأطوَل" على قطاع غزة، أو ما اصطلح على تسميتها بحرب الإبادة، نظرًا لحجم الفظائع التي ارتُكِبت فيها، والتي تلخّصها الفاتورة "الثقيلة" التي انطوت عليها، والتي تكاد تكون غير مسبوقة في تاريخ الصراع بالمُطلَق، بكلّ المحطّات التي مرّ بها، والفصول التي شهد عليها، منذ النكبة في العام 1948 وحتى يومنا هذا، وهي فاتورة تبدأ بالعدد المهول للشهداء والجرحى، لكنّها تشمل كلّ مناحي الحياة.
خمسة عشر شهرًا دامت هذه الحرب، أو 471 يومًا بالتمام والكمال، تحوّلت معها "المجازر" إلى "الطبق اليومي" للفلسطينيين، حتى إنّها أضحت "روتينًا" تأقلم الكثيرون حول العالم معه، حتى من قبل دعاة حقوق الإنسان، رغم ازدياد نسبة "التوحّش" مع مرور الوقت، وأصبحت عبارات ومفردات مثل الإبادة الجماعية والنزوح والتهجير، بل حتى الجوع والمجاعة، وانهيار المنظومة الصحية، وغيرها، من "اليوميات" في أخبار القطاع.
انتهت الحرب عمليًا، ولو أنّ الطريق أمام النهاية الفعلية لن تكون قصيرة، بانتظار اكتمال مراحل الاتفاق الذي تمّ إبرامه، والذي لا يُستبعَد أن تخرقه إسرائيل في أيّ لحظة، تمامًا كما فعلت في ساعاته الأولى، حين قتلت الكثير من الفلسطينيين الذين اعتقدوا أنّهم تجاوزوا الحرب اللعينة، وتمامًا كما تفعل في لبنان، حيث تخرق اتفاق وقف إطلاق النار كلّ يوم، من دون أن يردعها رادع، لكن ماذا عن اليوم التالي، وهل حان وقت "المراجعة"؟!
من "طوفان الأقصى" إلى حرب الإبادة
على امتداد أشهر الحرب الطويلة، حُكي كثيرًا عن "اليوم التالي" الذي سيعقب نهاية الحرب على غزة، باعتباره يومًا لا يمكن أن يكون شبيهًا بما قبلها، أو بمعنى أدقّ، بما قبل يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تاريخ عملية "طوفان الأقصى" التي فصلت بين مرحلتين، لكن لا يبدو أنّ ظروف هذا "اليوم التالي" قد نضجت فعليًا، أو بالحدّ الأدنى اكتملت، بانتظار مجريات الأيام، وربما الأسابيع المقبلة، التي يمكن أن ترسم المزيد من المعادلات.
لكن، أبعد من تحديد معالم "اليوم التالي"، يتحدّث كثيرون عن "مراجعة" لا بدّ منها، وقد حان وقتها، لكلّ ما جرى، على امتداد أشهر الحرب، بدءًا من عملية الطوفان نفسها، والحسابات التي استندت إليها، وصولاً إلى الحرب، وطريقة التعامل معها على كلّ المستويات، فلسطينيًا وإسرائيليًا، عربيًا وغربيًا، وصولاً إلى جبهات الإسناد التي فُتِحت في أكثر من مكان، ولكن أيضًا تلك التي لم تُفتَح، سواء سياسيًا أو عسكريًا، أو حتى شعبيًا.
وإذا كانت عملية "طوفان الأقصى" محصورة عند انطلاقتها بشريحة صغيرة، باعتبار أنّ الإعداد لها تمّ سرًا، من قبل كتائب عز الدين القسام، حتى إنّ هناك من يقول إنّ المستوى السياسي في حركة حماس لم يكن مطّلعًا على تفاصيلها، فإنّ المراجعة المطلوبة يجب أن تشمل الكثير من القوى، ولا سيما أنّ تداعيات الطوفان كانت "مزلزلة"، إن صحّ التعبير، في مؤشر إلى "ضخامتها" التي لم تقتصر على فلسطين فقط، بل امتدّت إلى المنطقة، بل الإقليم بأسره.
هل كان الطوفان يستحقّ؟
لعلّ السؤال الأكبر الذي يُطرَح في مثل هذه المراجعة، والذي يبدو أنه سيبقى بلا إجابة حاسمة في الوقت الحالي، هو: "هل كان الطوفان يستحقّ؟".. هو سؤال مبرّر، ليس فقط لأنّ الطوفان شكّل "مفترقًا" في طريقة تعامل المقاومة مع الاحتلال، ولكن أيضًا بالنظر إلى التضحيات الكبرى التي دُفِعت في قطاع غزة بالدرجة الأولى، وهو الذي أصبح بعد هذه الحرب عبارة عن مدينة ركام، وليس أكثر، يغيب عنها الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة البشرية، وليس فقط اللائقة.
"هل كان الطوفان يستحقّ؟".. سؤال لا يُطرَح فقط في فلسطين، بل في لبنان أيضًا، وحتى داخل "حزب الله"، الذي خسر بنتيجة الطوفان رجلاً استثنائيًا بحجم أمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، كان اغتياله عنوانًا لتغيّرات دراماتيكية متسارعة على مستوى كامل المحور، ولو أنّ المعنيّين يجيبون بأنّ قرار "الإسناد" اتخذه نصر الله نفسه، وقد أراد من خلاله الانسجام مع البوصلة التي حدّدها لنفسه منذ اليوم الأولى، وكان من ضمن أقلّية لم تَحِد عنها.
لن تكون الإجابة ممكنة، قبل اكتمال المراجعة، فثمّة من يتحدّث عن إيجابيّات، بينها "إحياء" القضية الفلسطينية، بعدما كادت تُهمَّش، وخلق رأي عام مساند لها، في دول الغرب حتى، التي وصلتها للمرة الأولى سرديّة مغايرة عن تلك الإسرائيلية المعلّبة، وبينها أيضًا إطلاق مسار قانوني دولي يكاد يكون غير مسبوق أيضًا لمحاسبة "مجرمي الحرب" الإسرائيليين، لكنّه مسار يصطدم بالعديد من العقد والألغام، على رأسها الدعم الأميركي لإسرائيل..
كثيرةٌ هي "العِبَر والدروس" الحرب الإسرائيلية الأطول على قطاع غزة، ولعلّ أقساها عدم إمكانيّة الرهان على دول العالم للوقوف ضدّ الظلم، انسجامًا مع مبادئ القانون الدولي التي ترفعها، بعدما أصبحت هذه الدول "شريكة" في الإبادة، بصورة أو بأخرى. هي "دروسٌ" لا بدّ أن تحضر في "المراجعة" المطلوبة، وإن هناك من يرى أنها مؤجَّلة، بانتظار عودة الحياة، أو شيء منها على الأقلّ، إلى القطاع الفلسطيني المُحاصَر...