Advertisement

لبنان

كان لها بيت في الجنوب

اندريه قصاص Andre Kassas

|
Lebanon 24
20-02-2025 | 02:00
A-
A+
Doc-P-1323062-638756368841171504.jpg
Doc-P-1323062-638756368841171504.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
لم تصدّق أن فجر يوم 18 شباط قد بزغ حتى كانت أولى الواصلات والواصلين إلى مشارف بلدتها الجنوبية، التي تركتها مكرهة مع غيرها من أهل هذه البلدة، التي لم يبقَ فيها سوى المقاتلين، الذين فضّلوا الاستشهاد قبل أن يروا بلدتهم يحتلّها العدو، الذي لم يرحم لا النساء ولا الشيوخ ولا الأطفال ولا الرضّع في الجنوب، الذي عاد إليه بالأمس أهله، ولو في قلوبهم أكثر من غصّة وأكثر من حسرة وأكثر من لوعة. وتحولت المنازل الجنوبية إلى أكوام من الحجارة ستبقى شاهدة على جرائم إسرائيل في حقّ الإنسانية، وفي حقّ التاريخ، وفي حقّ الضمائر الناعسة.
Advertisement

التفتّ بخيوط الفجر الأولى لتدفئ بعضًا من قلوب منكسرة، وتبلسم جراحًا لن تندمل مع مرور الوقت وكأن شيئًا لم يكن. وقفت تنتظر، مع كثيرين، التعليمات التي تسمح لها ولهم بالدخول إلى بلدتهم من قيادة الجيش المحلية ومن المسؤولين عن شؤون بلديتهم. وما هي سوى ساعات كانت بالنسبة إليها دهرًا حتى أُعطي الأذن بالانطلاق مع أخذ التوجيهات التي أعطيت لها كما لغيرها في الاعتبار واجتناب سلوك الطرقات غير تلك التي حُدّدت للداخلين إلى بلدتهم بعد طول انتظار.

دخلت وقلبها يسبق رجليها لكثرة دقّاته. لم تتعرف إلى الدروب، التي أكلت "شقفة" من رجليها . كل شيء تغيّر. المنازل لم تبقَ مكانها وكأنها رحلت مع من رحلوا. هي أكوام من حجارة ليس إلاّ. هي منازل لم يبقَ منها سوى ما علق في الوجدان من ذكريات لن يمحوها العدوان مهما بلغت غطرسته. هي شبه منازل أبقت بعضًا من رائحة أحبّة ستبقى ذكراهم شواهد على أن الحقد مرّ بقراهم.

فمع سقوط كل منزل اندثرت ذكريات عمرها من عمر الطفولة. أوليس أجمل تعبير جبلي عمّا يجيش في القلوب من عاطفة تجاه الآخر عندما يُقال له "يا بيتي"، مع ما لهذا التعبير من رصف لحجارة مباركة مع عتباتها المشغولة بأزاميل لا تزال تحفر أصواتها في ذكريات لا تُطوى إلا عند آخر زفرة.

يوم كان الأجداد والأباء، رحمات الله على من غابوا وأبقى عزيزًا من لا يزال على قيد الحياة، يمسكون أزاميلهم بأيديهم السمراء ليقصّبوا الحجارة البيضاء، حجرًا حجرًا، ومع كل رصف حجر كان الأمل يكبر، وكانت تتراقص في مخيلاتهم تلك المنازل المرصوفة كحجارة الداما على طرقات ضيعتنا، التي جرفها الحقد الأعمى والجهل. فكم استلزم صقلها من وقت وتعب وعرق. وكم استغرق تشييدها حجرًا فوق حجر من صبر وعناية ومهارة. فمع كل حجر كان "يشقع" فوق حجر آخر كانت القلوب تزداد خفقًا إلى أن يكتمل عقد البيت، وإلى أن يصبح له سقف يأوي ساكنيه من حرّ الصيف ومن صقيع الشتاء. وفيه تتراكم الذكريات والخبريات وحكايا الكبار عن زمن العزّ والبطولة وما فيها من "تمليح" و"تبهير" أمام مواقد لا تنطفئ نارها ولا يخبو نور قنديلها.

صحيح أن بلدة صاحبتنا الجنوبية محيت منازلها عن "بكرة أبيها" وسيعاد بناؤها حتمًا، ولو بعد حين، ولكن ليس إلى الأجمل، مع أن العمارة الحديثة المعتمدة على هندسيات متطورة تقنيًا قد تبدو أجمل مما كانت عليه في السابق، ولكنها ستكون خالية، يا للأسف، من الذكريات، ومن أصوات تصدح مع كل طلعة شمس "يا ما أحلى نورها"، ومع كل كلمة "عوافي" تصدر عن قلب صادق وحنون.  فهل كان يعرف ذاك الذي كان يطلق صاروخه الأعمى على البيوت التي تهاوت على امتداد العقد اللازوردي الجنوبي بثوانٍ كم استلزم بناؤها من جهد وتعب وعرق وتجميع القرش بالقجة والخير والبركة؟ وهل يعرف ذاك الذي كان يمسك بحبل المدفع حتى الأمس القريب كم "دعوة" نزلت على رأسه مع كل طلقة صاروخية؟

هي المنازل، هي الديار، هي البلدات والقرى، هي كل ما تبقّى لدى أهلها العائدين بكبر وإباء، لكي يقبّلوا التراب، ويمسح عنه دنس أحذية الغزاة.   

وقفت أمام منزلها، الذي لم تعرفه إلا بعد أن مسحت بكفيها المتعبتين أنهر الدموع، التي انهمرت من عينها، فمرّت أمامها سنوات من العمر الذي مضى، ولو للحظات، وتخايلت نفسها طفلة تلعب مع أقرانها أمام المنزل الوالدي، محروسة بعيون والد لا همّ لديه في الحياة سوى أن يرى أبناءه يكبرون بالعزّ والكرامة والمجد، وبابتسامات والدة يكسوها الخجل الرقيق، وضحكات سمعت صداها من وراء ستار الزمن الغادر. لم تبكِ على منزل لم يبقَ منه حتى ما يذكّرها بماضٍ تخاف ألا يعود، بل بكت على تعب والدها، الذي ترك في قبو منزله، الذي بناه بحبات القلب وبتقوى إيمان أصلب من صخور الجبال، ما رسمته يداه المبدعتان من لوحات فنية قلّ مثيلها.

ولم تكد تمسح آخر دمعة حتى عادت إلى عينيها ضحكة فيها من الايمان ما ينقل الجبال من مكان إلى آخر حين رأت قبر والديها على حاله، وكأنه كان عصيًا على آلة الهدم والدمار، فتحدّت رفاة مَن ذكراهم لم تغب يومًا عن بالها جبروت العدو المحتّل. وقبل أن تجثو على ركبتيها تقبّل حبيبات التراب، رفعت عينيها ويديها نحو ربّ الحياة شاكرة وحامدة. وغاصت في تأمّل عميق دام ساعات قبل أن تسدل الشمس ستائرها الحمراء عن خشبة مسرح الحياة التي ستصنع من الضعف قوة.   
تحية لصديقتنا المطربة سمية بعلبكي.
 
المصدر: خاص لبنان24
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك
Author

اندريه قصاص Andre Kassas