من يتسنّى له هذه الأيام أن يزور أي بلد، سواء أكان عربيًا أو غربيًا، لا يسعه إلاّ أن يجري مقارنة سريعة بين ما هي عليه حال لبنان وما تحقّقه تلك البلدان من تقدّم في مختلف المجالات، حتى تلك التي كانت تمرّ بأزمات كبرى يوم كان لبنان ينعم بإستقرار نسبي كان يُحسد عليه.
فهموم اللبنانيين اليوم محصورة بتأمين كفاف كل يوم بيومه. أمّا في بلاد الآخرين فهموم شعوبها تخطّت اللحظة الآنية، على رغم أن جائحة "كورونا" بمتحوّرها الجديد "أوميكرون" قد ساوت بين الجميع من حيث المخاوف والقلق والإحتياطات الوقائية. أمّا السبب في هذا الفرق الكبير بين وضعية اللبنانيين وسائر الشعوب فيعود في الأساس إلى أن في بلاد الآخرين إنتظامًا عامًا لعمل السلطات، إذ لكل سلطة إستقلاليتها في مجالات التشريع والتنفيذ والقضاء، من دون إغفال دور المعارضة، التي تحاول الإفادة من أخطاء السلطات الحاكمة لتعزيز حظوظها في الإستحقاقات الإنتخابية، وهذا ما يُعرف بالحياة الديمقراطية السليمة.
أمّا في لبنان، وبغض النظر عن أوضاعه المالية والإقتصادية المنهارة، فإن السلطة فيه اشبه بجاط سَلَطة أو بصحن مخلوطة، حيث تتداخل الصلاحيات بعضها بالبعض الآخر. فالسلطة التشريعية ممثّلة بالسلطة التنفيذية في شكل أو بآخر. والسلطة التنفيذية مطّوقة من كل الجهات ومكبّلة، فيما السلطة القضائية مرهونة بأمزجة بعض الذين لا يعجبهم شكل أو أداء هذا القاضي أو توجّهات ذاك المحقّق، سواء أكان محقّقًا عدّليًا أم عادّيًا.
من تسنّى له مشاهدة حفل إفتتاح "المنتدى الشبابي الدولي" الرابع الذي أقامته مصر في مدينة شرم الشيخ أمس، يعرف تمًاما المقصود من تلك المقارنة بين وضعنا في لبنان وبين وضع غيرنا.
هذا الكلام لا نريده لرفع منسوب اليأس لدى الناس، لأن ما فيهم يكفيهم، ولكن من أجل وضع النقاط على الحروف ومحاولة تصويب البوصلة، خصوصًا أننا مقبلون على إنتخابات نيابية ستكون مفصلية بإعتراف الجميع، من الداخل والخارج. فإذا لم تغيّر هذه الإنتخابات ما في القوم من إعوجاج في طريقة إنتقاء ممثليهم فإن الوضع سيبقى على حاله من دون أن تلوح في الأفق أي بوادر تغييرية أو إصلاحية. وعندها فليتحمّل الجميع مسؤولية خياراتهم، وبالتالي يصبح "النق" من غير ذي جدوى.
وفي الإنتظار، وقبل وبعد كل ذلك، نعود إلى بيت القصيد، الذي من دونه لن نخطو أي خطوة في الإتجاه الصحيح، ولن نتمّكن من إيصال صوتنا إلى المجتمع الدولي من خلال المفاوضات المباشرة مع وفد صندوق النقد الدولي. والمقصود ببيت القصيد هنا العودة إلى طاولة مجلس الوزراء لمناقشة موازنة العام 2022، وإرسالها إلى مجلس النواب لدرسها من قبل لجنة المال والموازنة، ومن ثم إقرارها في الهيئة العامة في الدورة الإستثنائية للمجلس النيابي.
فمن دون إقرار هذه الموازنة لا أمل للبنان في حصوله على أي مساعدة من الخارج. إنها أكثر من ضرورية. وهذا ما تبّلغه الوفد اللبناني المفاوض. فعلى طريقة "No Money No Honey" يمكن القول "لا موازنة لا مساعدات"، من دون إغفال المطلب الأساسي الا وهو ضرورة المباشرة بإصلاحات إدارية ومالية فورية. وهذا الأمر لن يحصل طالما أن مجلس الوزراء ممنوع عليه الإجتماع والبدء بوضع "خطّة التعافي" على سكّتها السليمة.
المطلوب عودة مجلس الوزراء إلى الإنعقاد اليوم قبل الغد، وهو يتقدّم على أهمية طاولة الحوار، التي سيدعو إليها رئيس الجمهورية، وفق ترتيب جدول الأولويات، خصوصًا أن المواضيع المدرجة على جدول أعمال طاولة الحوار لا تمتّ بصلة، لا من بعيد ولا من قريب، بما يعانيه المواطن في حياته اليومية. فدرس الخطة الإستراتيجية معروفة التوجه سلفًا. أمّا ما يتعلق بملفي اللامركزية الإدارية فليس الآوان آوانها .
المهم أن هناك معادلة ثلاثية جديدة يجب أن تكون من الأولويات. فمن دون موازنة لا تحلموا بمساعدات خارجية. ومن دون جلسة لمجلس الوزراء لن تبصر الموازنة النور. هذا هو بيت القصيد. أمّا الباقي فتفاصيل.