شهدت الايّام الاخيرة الماضيّة حركة لافتة ترشيحاً وإعلاناً للتحالفات واللوائح. وقدّم رؤساء الاحزاب بشكل خاص برنامجهم الانتخابيّ، بالاضافة إلى مرشحيهم،ما يؤكّد أمراً واحداً، وهو أنّ الانتخابات ساريّة في وقتها الدستوريّ، وأنّ القوى تستعدّ لها، ولا يُمكنها تطييرها خوفاً من المواطنين ورغبتهم بالتغيير، رغم إستمرار الترويج لإمكانيّة تأجيلها، تحت ذريعة أمنيّة أو إقتصاديّة.
في السيّاق، تعمل الاحزاب التقليديّة على ضرب فرص وصول مرشحي المجتمع المدني إلى سدّة مجلس النواب عبر طرق مختلفة، ولعلّ أبرزها عدم إيلائهم الانتباه بشكل خاص في خطاباتهم، والتركيز على قلب المعركة الانتخابيّة من تغييريّة مع حركات "ثورة 17 تشرين"، إلى معركة أحزاب، والتركيز على الخطاب الطائفي، وتجييش الرأي العام عبر تذكيرهم بمرارة ومآسي الحرب الاهليّة، والجرائم والانتهاكات التي حصلت في وقتها. وهذه الطريقة نجحت منذ العام 2005 بجذب الناخبين. وكانت كلمة رئيس "التيّار الوطني الحرّ" النائب جبران باسيل منذ 3 أيّام، خير دليل على مسار الخطاب المعتمد. فصوّب على "القوات اللبنانيّة"، ووصف رئيسها بـ"المجرم". وهي ليست المرّة الاولى التي يُطلق فيها هذه العبارات، عند كلّ استحقاق دستوريّ، وعند اقتراب الانتخابات.
اراد باسيل من هذه الخطوة ،بحسب مراقبين، تذكير المسيحيين بشكل أساسيّ أنّ كلّ ما عاشوه من دمار وحروب وتفلّت للسلاح سببه "القوات". أمّا مشروع "التيّار" فهو الشرعيّة والجيش في أيّام الحرب وبناء الدولة حاليّاً. وهذا ما يجب التصويت له في الانتخابات بحسب باسيل، وخصوصاً في البترون. ويُضيف المراقبون أنّ رئيس "الوطنيّ الحرّ" لم يُوفّر المجتمع المدني من سهامه، وذكّر مراراً من أنّ "الثورة" ومن ورائها من "حربايات"، عملت على إغتياله سياسيّاً. لكنّه ركّز على "القوات" لما تُشكّله من خطر على مقعده النيابيّ. فهي قريبة من تحقيق هذا الهدف، مع خوض باسيل الانتخابات من دون "المستقبل" ورئيس "حركة الاستقلال" ميشال معوّض. ويبقى تأمين الحاصل الانتخابيّ الوحيد للائحة "التيّار" شبه محسوم في دائرة الشمال الثالثة، ولكّن على هويّة الرابح علامة الإستفهام.
كذلك، استبقت "القوات" الهجوم على باسيل. وحمّلته وفريقه السياسيّ ورئيس الجمهوريّة ميشال عون كل ما آلت إليه الاوضاع الاقتصاديّة في البلاد. ركز خطاب "القوات" على فشل "العهد" في تحقيق أي هدف تغييريّ وإصلاحيّ منذ وصوله إلى السلطة في العام 2016. أمّا جعجع، فتوجّه إلى الناخب منذ يومين، وقال له إنّ "القوات" قادرة على تحقيق ما لم يرد "الوطني الحرّ" إنجازه. إذاً يتبلور أنّ معركة "القوات" هي حرمان باسيل من مقعده النيابيّ، والعمل بقدر المستطاع على شدّ عصب الناخبين لتحجيم كتلة "الوطني الحرّ" وحلفائه.
ويقول مراقبون إنّ بين لغّة "القوات" و"التيّار" وغيرها من الاحزاب، هناك إنكارٌ لما حصل بعد 17 تشرين الاوّل 2019، وللازمات التي حصلت بعد هذا التاريخ. فالتشديد على أنّ الوضع المعيشيّ والاقتصاديّ والنقديّ المتدهور سببه سياسات سابقة، وتوجيه الاتّهامات، من دون تقديم الحلول والبرامج الاصلاحيّة والانقاذيّة، لا يراعي بتاتاً ما يطمح إليه اللبنانيون. كذلك، غاب على سبيل المثال عن خطاب باسيل جوانب اخرى لها علاقة بالتدهور الحاصل لانّ الانتخابات على الابواب، والتحالفات الانتخابية لها الاولوية. ويُضيف المراقبون أنّ الاحزاب لم تستجب لاصوات المواطنين الذين طالبوا بتغيير كافة الطقم السياسيّ، وعمدت على ترشيح معظم الوجوه التقليديّة، المتواجدة حاليّاً في مجلس النواب أو في موقع القرار. ومن بين هذه الوجوه على سبيل المثال، بعض المعنيين المباشرين بالتحقيقات في إنفجار مرفأ بيروت.
توازيّاً، فإنّ الاحزاب تعمل أيضاً على التقارب من المجتمع المدنيّ وتشكيل لوائح مشتركة معه. وتهدف هذه الخطوة منع وصول مرشحي قوى التغيير الجدد إلى مجلس النواب. فصحيحٌ أنّهم يساهمون في رفع الحواصل للائحة التي ينتمون إليها، لكّن تبقى الاصوات التفضيليّة مرجّحة لصالح مرشحي الاحزاب، لما تملكه من رصيد شعبيّ أكبر. ويُشير مراقبون إلى أنّ من شأن هذه التحالفات أنّ تزيد من تشرذم قوى المجتمع المدني، وتعدّد اللوائح، ما سيُخفض من إمكانيّة نجاحها في خرق المقاعد النيابيّة الخاصّة بالاحزاب.
من جهة ثانيّة، وضعت أحزاب وشخصيات مستقلّة معارضة نفسها في خانة المجتمع المدني، والمناهضة بشكل كبيرٍ لسياسة "حزب الله"، ونجحت إلى حدٍّ ما، بجذب مرشحين، بالاضافة إلى أصوات جديدة إلى لوائحها. ومعظم هذه الشخصيّات خاضت سابقاً الانتخابات مع الاحزاب التقليديّة، وانسحبت منها بعد "ثورة 17 تشرين"، وانفجار 4 آب، وتدهور الوضع الاقتصادي، وتحميل المسؤوليّة للسلطة وفريق "العهد".
ويلفت مراقبون النظر إلى نقطة أساسيّة، وهي أنّ قانون الانتخاب، عائقٌ أمام كل ساعٍ للتغيير. فالنسبيّة تتمثل بتأمين التحالفات، والتصويت لاشخاصٍ على حساب المشروع الانتخابيّ. وهذا الامر يصبّ لصالح الاحزاب على حساب قوى "الثورة".
وبينما يعمل المجتمع المدنيّ على تقديم مرشحيه، ومنهم البارزين في مجال عملهم، ما يعني أنّهم قادرون على وضع مشاريع إنتاجيّة لانتشال البلاد من الوضع الاقتصاديّ السيّء، يسعى قيّمون على أحزاب، على تلطيخ صورة قوى التغيير، عبر تخوينهم وتصنيفهم في خانة العمالة للسفارات. وتجدر الاشارة إلى أنّ ليس فقط "حزب الله" اعتمد هذه اللّغة، فقد بدأت أحزاب مسيحيّة أيضاً تتّهم مرشحي المجتمع المدني بأنّهم ينضوون تحت راية أحزاب أخرى، ويدّعون أنّهم من قوى التغيير.
في الاطار عينه، وفيما تعمل الاحزاب على حصر المعركة الانتخابيّة في ما بينها، ينتظر المجتمع الدولي، والدول المانحة لنتائج الانتخابات النيابيّة، والوجوه الجديدة. ورغم أنّ فرص التغيير بعيدة المنال، بسبب عدم التقاء قوى المجتمع المدني، واستمرار الخلاف حول مواضيع كثيرة في ما بينها، يسأل مراقبون "هل سيمُدّ المجتمع الدولي لبنان بالمساعدات، وخصوصاً تلك التي ينتظرها من صندوق النقد الدولي، إنّ بقيّت الوجوه السياسيّة المتحكمة بمفاصل البلاد هي نفسها؟"