لم أكن لإحُسد على وجودي صدفة في أحد الأماكن الخاصة في أحدى ضواحي مونتريال. المناسبة إجتماعية لكنها تحوّلت سريعًا إلى جلسة سياسية، ولكنها كانت صاخبة، حيث تبادل قريبان (أولاد الخالات) أقسى وأقصى أنواع الإتهامات. والسبب أن لكل منهما إنتماء سياسي مختلف ومتناقض ومتنافر مع الآخر.
لم يكونا في حاجة إلى سبب مباشر لتحتدم بينهما. فلكل منهما رأيه، وهما متمسكان به حتى النهاية ولا يقبلان بأن يسلم أي منهما بمنطق الآخر، حتى ولو كان هذا الآخر على حق. فمقولة الإمام الشافعي حول الصواب والخطأ كانت غائبة في هذا الجدل البيزنطي العقيم. فلو طبّقا ما قاله الشافعي حول رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ"، لما تشبثّ كل منهما برأيه، معتبرًا أن خطّه السياسي وحده على حقّ وخط الآخرين على خطأ وضلال.
فقبول الاختلاف والرأي الآخر من دون ذم أو قدح أو تجريح، هو من أهم صفات نجاح أي حوار بين أثنين مختلفين، أيًّا تكن أسباب الخلاف، إذ لا عداواة دائمة وكذلك لا صداقة دائمة، وهذا ما تحدّث عنه الإمام علي بن أبي طالب حين قال "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا ما، عسى أن يكون بَغِيضَكَ يومًا ما، وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا ما عسى أن يكونَ حَبِيبَكَ يومًا ما".
فلو لم يحتكر كل منهما رجاحة الرأي في هذا الجدال العقيم لما إضّطرا إلى كل هذا التشنج الذي طفا على صفيح علاقتهما، وهما قريبان مقربين. ولو كان باب الحوار مفتوحًا لتعدد الآراء في ما كانا يناقشانه من دون الحاجة إلى التشنج والغضب لكانا بقيا ضمن خطوط الإحترام المتبادل، وهذا ما يثري الحياة ويزيد من حيويتها. فالاختلاف في الرأي ووجهات النظر أمر حيوي وموجود في كل المجتمعات وسنّة كونية، وها ما جاء في سورة "هود": "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ".
فالتشبث بالرأي الآحادي أمر يورث الشحناء والبغضاء والفرقة بين الناس، وهذا ما نشهده كل يوم في لبنان وخارجه، وحيث يتواجد شخصان ينتميان سياسيًا إلى فريقين مختلفين.
فهذا المشهد يتكرر كل يوم، بل كل لحظة. والخشية أن يتطّور التلاسن العشوائي إلى خضّات ومشاحنات بين جمهور الأفرقاء السياسيين المختلفين، شكلًا ومضمونًا، وهذا ما كان يحصل في الجامعات، حيث كانت تحتدم الأمور بين الطلابن، وكانت الأمور تصل إلى حدّ التضارب، فتتحول ساحات العلم والمعرفة إلى ساحات قتال.
السبب هو هذا الشحن السياسي الذي تمارسه القيادتات السياسية في موسم الإنتخابات والهدف نائب بالزايد من هنا ومن هناك.
فالأكثرية كانت مع قوى 14 آذار ولم تستطع أن تفعل شيئًا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى قوى 8 آذار.
جل ما فعلوه ويفعلونه هو المزيد من الإحتقان والمزيد من بث جو من الحقد والكراهية حتى داخل البيئة الواحدة، حيث إعتقدنا عن سذاجة أن المصالحات الثنائية، ومن بينها المصالحة المسيحية – المسيحية حقيقية لنكتشف أنها كانت قائمة على قواعد واهية أساسها المحاصصة.
فالإنتخابات فرصة ديمقراطية للتعبير عن خيارات نابعة من قناعات شخصية فلا تحوّلوها إلى مأزق جديد يُضاف إلى سجلات المآسي التي يعيشها المواطنون منذ سنوات، وبالأخص في السنوات الأخيرة.
تذكير أخير لأولاد الخالات، ولغيرهما، أنهما موجودان في بلاد طقسها لاذع و"تاكسها" (taxe) موجع، وذلك بسبب السياسات الخاطئة المنتهجة منذ العام 1998 حتى اليوم، وبسبب الخلافات السياسية العقيمة حتى داخل البيئة الواحدة.
هذا المشهد واحد من الآف المشاهد التي تتكرّر في الوطن والمهَاجر. وأخشى ما أخشاه أن تدخل على خط هذه الجدالات العقيمة وغير المفيدة، بل المضرّة، "قوى الشرّ"، فتخلف الأخ مع أخيه، والجار مع جاره.
فهذه القوى تتربص بنا في كل مكان وزمان.
لا تنسوا، أيها المتخاصمون، أن لبنان الساكن في قلوبنا نحن المغتربين ينزف وينازع ويحتضر.