يعيش اللبنانيّون في هذه المرحلة المصيريّة بداية أمل جديد، فبعد أسابيع على فاجعة غرق أحد مراكب النجاة، نجد أنّه ما زال يتشبّث برياح التغيير مع مركب الانتخابات البرلمانيّة، على الرغم من محاولات سرقة قرار المواطن، ورجائه بغدٍ أفضل. إذ يتصرّف القائمون على إدارة البلاد ضمن علاقة "أبويّة مرَضيّة" مع المواطنين. فما زالوا يتعاملون بعقليّة "الوصاية" مع مواطنيهم على الرغم من تذرّعهم أنّهم حُماة الحرّيّة، وقلبهم على مصلحة "أبنائهم". أنّ أحد عوارض هذه العلاقة غير السليمة، هو عدم السماح للمواطن بمعرفة الحقيقة "لأنّه لا يُحسِن التصرّف"، وعدم استطاعته التعبير عن واقعه، لأنّه وحدهم أصحاب الكراسي يعرفون كيف يتكلّمون، وعلى الباقي أن "يسكتوا!".
في هذه الهيمنة على الرأي في بلد الحرّيّات، يسمح المسؤولون لأنفسهم أن يصدروا الأحكام والتصريحات بحسب الوضع العامّ، رغم أنّهم بعيدون كلّ البُعد عن واقع المواطن وحالته الاقتصاديّة والنفسيّة. فمثلًا، عندما شاهد السياسيّون أنّ المواطن مُفلِس، وقد يجذب هذا الواقع اهتمام واصغاء البعيدين، انقضّوا على هذه الحالة، وتبنّوها عنوةً، فأصبحوا يطلقونها على أنفسهم، ويقولون "إنّ البلد مُفلِس"، ويتماهون مع الحالة الاقتصاديّة السيّئة في تقصيرهم... لعلّ وعسى أن يأتيهم ضخّ جديد من الدولارات. قد لا يكون انتزاع صفة الإفلاس من المواطن الدافع الوحيد، فيجب ضمان هذا الإفلاس بـ"قطع الرؤوس"، أي تمرير قانون "الكابيتال كونترول"، واقتطاع رؤوس أموال المواطنين.
في العودة إلى موضوع الوصاية، يخشى أصحاب النزعة الأبويّة المريضة على إحساس أبنائهم، فيغيّبون عنهم حقيقة أنّ لا إفلاس ممكن للدولة، وأنّ حالة العجز هذه قد مرّت فيها بلدان كثيرة سابقًا، وإنّ بعضها اليوم يُعدّ من أقوى الاقتصادات العالميّة... إذ يمكن للدول أن تُعلن عدم مقدرتها على دفع ديونها في المواعيد المحدّدة، تمامًا كما حصل منذ سنتين في لبنان، إذ لم تكن الحكومة قادرة حينها على دفع ١,٢ مليار دولار أميركيّ من سندات اليوروبوند. بالطبع، عادت تلك البلدان العاجزة إلى الحياة الاقتصاديّة الاعتياديّة بصعوبة، فمن المفيد أن تعي الحكومة اللبنانيّة أنّ كل المؤشّرات السابقة كانت توجّه البلد إلى حالة العجز... لكن من تفوّه بهذا الأمر، طُلب منه أن يسكت... وإلّا!
الحالة اللبنانيّة اليوم وصلت إلى ما بعد العجز، إذ مع إعلان عدم إمكانيّة سداد الالتزامات الماليّة، يأتي شحّ السيولة، وانقطاع الكهرباء والبنزين، وغلاء المعيشة، وفقدان الأدويّة والمنتجات الغذائيّة، ورفع الدعم عنها. كذلك، انخفاض احتياطات النقد الأجنبيّ خصوصًا مع شبه انعدام النشاط السياحيّ، فلم يعُد عاجزًا وحسب، بل منكوبًا.
وكما يسلب المتسلِّط فرحة المواطن، يسلبه أيضًا فقره ولو عنوةً، لأنّ مصطلح الإفلاس بالتعريف هو إجراء قانونيّ لا يمكن أن يُطبّق على دولة، بل على فرد أو شركة. فمن يستطيع أن يُجبر دولةً ما على الدفع بمبدأ "بيّ أقوى من بيّك"؟ وكيف يمكن أن تبيع الدولة أصولها أو استبدالها، أي آثارها، وتراثها، وأرضها...؟
في معمعة البرامج الانتخابيّة، سمعنا عن فرض ضرائب خاصّة، أو تشريع باب الخصخصة... ومهما تأرجحت البرامج يسارًا ويمينًا، ستضع نُصب أعينها إيجاد موارد جديدة لإعادة الاقتصاد إلى حالة التعافي. وقد تتنوّع المواقف من صندوق النقد الدوليّ، بين مؤيّد كونه الحلّ الحتميّ، ومعارض لأنّ صندوق النقد لا يخلو تاريخه من إخفاقات، وحتّى "أجندات" معيّنة. لكن الأهمّ في حالة لبنان، وقبل الوصول إلى الاضمحلال التامّ هو إيجاد من يسنده، أي إيجاد الأموال بشتّى الوسائل الممكنة وأسرعها، سواء بالخصخصة أو الاقتراض، وهذان المصدران يحتاجان إلى إعادة الثقة لدى الدائنين، وبشروط ضمان التعافي.
الأمر الوحيد الّذي لا يمكن للمتسلّط أن يسلبه من المواطن... ضميره، والضمير الحيّ يتكلّم بالحقّ ولا يمكن اسكاته! وللضمير وسائل تعبير أقوى من الكلام، فصوته الانتخابيّ عبّر في الانتخابات البرلمانيّة الحاليّة عن رغبته بالتغيير. فحين يُصان الضمير، يجد المرء مخرجه من كل أنواع القهر، لأنّ الأب الحقيقيّ لا يخاف من أبنائه، بل يخاف عليهم، ولا يُسارع إلى إسكاتهم، أو تعتيم الحقيقة عنهم، بل يُفاتحهم، ويشاركهم، ويطلب منهم "العون" الفعليّ... فما نفع الأب أن يربح نفسه ويخسر عائلته...