القوى التي صوّرت الإنتخابات النيابية على أنّها محطّة مفصليّة من شأنها أن تضع لبنان على مسار الإنفراج، سرعان ما خاب أملها غداة إنجاز الإنتخابات النيابيّة، حيث بدأت تتكشّف ضبابية المرحلة المقبلة، خصوصًا أنّ الإزمات المعيشية بدأت تتفجّر دفعة واحدة، على وقع تصاعد دراماتيكي غير مسبوق ببورصة الدولار في السوق الموازية، عمل مصرف لبنان على لجمه بعد ظهر الجمعة ببيان "سياسي التوقيت ومحدود المفعول" وفق مقاربة العديد من الخبراء الإقتصاديين. كما أنّ الخطاب السياسي المتشنّج الذي أعقب صدور النتائج، وما عكسه من خلافات عميقة بين المكوّنات السياسيّة، عزّز الإنطباع السائد بعدم قدرة اللبنانيين على إنجاز الإستحقاقات الدستورية، بدءًا بتأليف حكومة، وصولًا إلى انتخاب رئيس للجمهورية، خلفًا للرئيس ميشال عون، الذي تنتهي ولايته في 31 تشرين الأول المقبل.
لا حكومة
الكل مدرك، أنّ عملية تأليف حكومة بسرعة، وبما يناسب الفترة الزمنية الفاصلة عن موعد الإنتخابات الرئاسية، والتي لا تتعدى الخمسة أشهر، هو أمرٌ في غاية الصعوبة، بالنظر إلى صراع القوى السياسية على الحكومة التي ستتسلّم صلاحيات الرئاسة الأولى في حال حصول فراغ في سدّة الرئاسة، وفقًا لأحكام المادة 63 من الدستور من جهة، فضلاً عن عدم فوز أي قوّة سياسيّة بالأكثرية المطلقة من جهة ثانية، الأمر الذي سيؤدي إلى تبعثر الأصوات النيابية، وهو واقع برلماني لا يساعد على تسهيل عملية تأليف الحكومة، بظل الإنقسام السياسي المعهود بين القوى التقليدية، ودخول قوى جديدة "تغييرية" تُناصب الخصومة للفريقين. من هنا يتعاظم الخوف من دخول البلاد في دوّامة من الجمود والفراغ، تساهم في تعميق الأزمة السياسيّة والإقتصاديّة. أكثر هذه التوقعات وضوحًا، وردت على لسان المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسيّة ديفيد هيل، الذي اختبر جيًدا التركيبة اللبنانية خلال عمله كسفير لبلاده في بيروت "أعتقد أنّ احتمالية استمرار الشلل السياسي في لبنان كبيرة، وقد تمتدّ لسنين طويلة".
انهيار يليه مؤتمر دولي؟
الفشل في إنجاز الإستحقاقات الدستوريّة الحكوميّة والرئاسيّة بظل الإنهيار المالي الحاصل، من شأنه أن يسرّع الخطى نحو الإرتطام الكبير، ويعزّز من تصنيف لبنان دولة فاشلة في المقاربات الدولية. هذه الفرضية، بنظر مصادر مراقبة، تتضح شيئًا فشيًا " فالبلاد دخلت فعليًّا مرحلة الإنهيار الكبير، بظل مخاوف من توتّرات أمنيّة، كان قد عبّر عنها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وسنكون أمام مرحلة شديدة التعقيد، ستدفع باتجاه مؤتمر دولي للحوار، ترعاه فرنسا".
في بادىء الأمر، تقول المصادر، ستنصب الجهود الفرنسيّة لتأليف حكومة، عبر الدفع باتجاه تكليف شخصيّة وسطيّة مقبولة من الجميع، وقد بدأت فرنسا بالفعل بالتواصل مع كل المكوّنات اللبنانية، بمن فيهم حزب الله "لكن في حال تمّ وضع العصي أمام عملية التأليف، وابتكار عراقيل، بدأنا نسمع بها حتّى قبل انطلاق مسار الإستشارات النيابية الملزمة، وداهمتنا المهل الدستورية وصولًا إلى الإنتخابات الرئاسية في تشرين الأول المقبل، ستكون فرنسا وبالتوافق مع جهات دوليّة وإقليميّة، معنيّة بالدعوة إلى مؤتمر حوار وطني بين المكوّنات اللبنانية التقليديّة، أي القوى التي اجتمعت مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الصنوبر، إضافة إلى بعض ممثّلي المجتمع المدني. بتقديري سنكون أمام مؤتمر أكبر من دوحة وأقل من طائف".
لكن ماذا عن تمثيل المكون السنّي، بظل غياب تيار المستقبل عن المشهد السياسي برمّته؟
"أي بحث بالصيغة اللبنانية سيبقى تحت سقف الطائف، ليكرّس الذهاب باتجاه الإصلاحات التي نصّ عليها اتفاق الطائف، مع وضع ضوابط للعمليّة السياسيّة، من شأنها أن تخدم الإستقرار في المرحلة المقبلة، وذلك بالإتفاق بين كل المكونات. ولا يمكن القفز باتجاه تغيير الطائف، بغياب المكوّن السنّي، وإن كان هناك نواب يمثّلون رموزًا سياسيّة فضلًا عن وجود قوى تغييرية، ولكن هناك قوى سياسيّة سنيّة غير ممثلة في السلطة".
تخوف من اضطرابات أمنية
ثمة من يعتقد أنّ لبنان لن يخرج من المسار الجهنمي إلّا بتدخّل دولي وحاضنة عربيّة وتحديدًا خليجيّة، وفي مقدمتهم البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الذي كشف مؤخرًا في حديث تلفزيوني، أنّ الدول الخارجيّة والفاتيكان والأمين العام للأمم المتحدة متجاوبون مع ضرورة عقد مؤتمر دولي. إذا سلمنا جدلًا أنّ الأمور ذاهبة باتجاه مؤتمر دولي بنهاية المطاف، علمًا أنّ ذلك دونه صعوبات تتعلق بانشغالات دوليّة في تداعيات الحرب الأوكرانيّة، كيف سيصمد اللبنانيون في الفترة الفاصلة، وأبسط مقومات الحياة الكريمة باتت شبه معدومة؟
هناك تخوّف من حدوث اضطرابات أمنيّة على خلفيّة تفاقم الأزمة الإجتماعية، التي طالت كلّ القطاعات ووصلت إلى القطاع الطبّي والإستشفائي، بما ينذر بانفجار اجتماعي وشيك، خصوصًا إذا فشلنا في تأليف حكومة، تقول المصادر "لكنّ الأمور ستبقى مضبوطة نوعًا ما، ولن ينزلق أيّ فريق إلى حرب أهليّة، إذ ليس هناك قرار دولي بتفجير الوضع خوفًا من تبعاته السلبيّة على الدول الغربيّة، خصوصًا أنّ لبنان يستضيف أعدادًا مليونيّة من النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين. من جهة ثانية يتزايد الإهتمام الأوروبي والأميركي بلبنان، نظرًا للثروة الموعودة من النفط والغاز، في هذه اللحظة الدوليّة، حيث يستعر الصراع الروسي الأوروبي حول الغاز، في حين أنّ شرق المتوسط يمثل أقرب نقطة لأوروبا".
بأيّ حال مسار التطورات في لبنان لجهة التوصل إلى تسوية تعيد للحياة السياسية انتظامها وتضع حدًّا لمسار التعطيل المستمر منذ العام 2005، مرهون بالملفات الإقليمية والدولية ومدى تعثرها أو تقدّمها، سواء تلك المتعلقة بالحوار السعودي الإيراني أو مفاوضات الملف النووي بين طهران وواشنطن.