تحاول البلاد المجاورة المتوسطيّة ذات الطابع السياحيّ أن تستثمر في كل سماتها الطبيعيّة، لكي تجذب السائحين والباحثين عن الاستجمام، بالأخصّ بعد انقطاع قارب العامين بسبب جائحة كورونا، فتُمطر هواتفنا المحمولة وغيرها بالدعايات الجذّابة، ولعلّ أشدّ الأمور استقطابًا في الصيف الحارق، ما يتعلّق بالمياه والشعور بالانتعاش. فإمّا المنتجعات الشاطئيّة، أو الينابيع المعدنيّة، أو البحيرات العذبة، ولن نخوض بالتفاصيل، لأنّ لبنان يمتلكها جميعًا "تقريبًا"... ما عدا أمرًا واحدًا مرتبطًا بالمياه ولعلّه الأكثر حيويّة، نقصد مياه الشرب، ومن بعدها المياه الجارية!
فضمن سلسلة القرارات "المدروسة"، ارتأى المسؤولون مؤخّرًا "دولرة" الخدمات السياحيّة من دون أن يخطّطوا إلى تأمين أساسيّات الحركة السياحيّة. فقبل فخر الصناعة الوطنيّة بأنواع البيرة والنبيذ والعرق، يريد السائح أن يروي عطشه بالماء أوّلًا... ويستحمّ، ويقوم بتلبية احتياجاته الاعتياديّة الّتي لا يفكّر بها في موطنه، أو في أيّ بلدٍ آخر... بالطبع، لا يُفترض على السائح أن يدفع ثمن مياه الشرب بأسعارٍ باهظة وكأنّ الأمر عاديّ، لا بل أنّ المدن السياحيّة تسعى لتأمينها مجّانًا، وتوزّع شبكة مياه طبيعيّة لروّادها، لأنّها تعكس بهذه الحركة الرمزيّة صورة كَرَمها ووضع خيراتها الطبيعيّة.
بالتأكيد، ستُغطّي "الدولرة" تكاليف نقص المياه في المنشآت السياحيّة، وقد لا يُلاحظ بعضهم الفرق... لكنّنا نعي أنّ شريحة كبيرة من القادمين إلى لبنان في هذا الصيف هم من أهل البلد، وسيجدون موطنهم في طور الغليان والتبخّر! الأسعار تغلي بالمقارنة بما كانت عليه بالليرة اللبنانيّة، وأموال المواطنين تتبخّر، وكذلك مياهه. والسؤال الّذي يُطرح هنا، أيّ إجازة (فرصة) سنوفّرها للمغترب، ومن ثمّ السائح ليفكّر في العودة مرّة أُخرى إلى لبنان، الوجهة السياحيّة الّتي كانت تغصّ مصايفها وجبالها وشواطئها على طول السنة بمختلف الجنسيّات.
بالعودة إلى المشهد اللبنانيّ، وإلى اللبنانيّين الصامدين في بلدهم حتّى رمقهم الأخير، نجد أن هذا البلد المتوسّطيّ يشارك في تفاصيل حياته بعض قبائل الصحراء الكُبرى الّتي تخصّص وقتًا ليس بالقليل لتدبير المياه وتوفيرها لحياتها. بالطبع، تعتمد حياة هذه القبائل على سنين من الخبرة والتأقلم، لكنّ اللبنانيّ يعطش وهو اعتاد على وفرة المياه، ويقتصد في استخدامها إذ باتت تمثّل ميزانيّة "مرقومة" من دخله المحدود!
لكن من الّذي أوصلنا إلى هنا؟ هل يمكننا إلقاء اللوم على اللبنانيّ لأنّه لم يُطالب بحقّه بالحصول على المياه وإصلاح الشبكات المتهالكة من بعد الحرب الأهليّة قبل ترميم واجهات المبانيّ والساحات العامّة وغيرها؟ أم نلوم الحكومات المتتابعة الّتي لم تحرّك هذا الموضوع إلّا كورقة تفاوض، أو للسمسرة والمرابح غير الشرعيّة؟
اليوم، نجد أنّ ثلاثة أرباع السكّان في لبنان معرّضون لخطر عدم الوصول إلى المياه الصالحة للشرب، لأنّ الأزمة الاقتصاديّة شلّت حركة نقل المياه، أو تصنيع القوارير وتعبئتها، أو تنقيّة المياه وتصفيّتها. وبالتالي، نجد أنّ ارتفاع التكلفة، وقلّة العرض بلجوء الشركات إلى التقنين، جعل مياه الشرب الثروة الحيويّة الأشدّ نُدرة في لبنان "الـ٢٠٠٠ ينبوع".
كذلك، لا تنحصر الأزمة على مياه الشرب، إذ يفيض قلب اللبنانيّ قهرًا عندما تنقطع لديه المياه الجارية! وأصبح يرى في "السيترنات" سترات نجاة من الموت قرفًا! لكنّ هذه الصهاريج تقتل قدرته الشرائيّة، إذ أصبحت تكلفة التزوّد بالمياه شهريًّا توازي ضعف الحدّ الأدنى للأجور.
ختامًا، نبحث اليوم عمّن يقوم بـ"دوش" للقائمين على خطط المياه والطاقة وغيره... كي يستَحوا قبل أن يموتوا، ويجدوا الحلول لمشاكل المياه بحلّ مسائل ضعف سعة التخزين، وشبكات الإمداد المتهالكة وإعادة تأهيلها، وتدفّق المياه إلى البحر من دون استغلالها، لتصل نسبة الاستفادة من هذه المياه (لا هدرها) إلى العُشِر، وتقارب نسبة الهدر العامّ إلى النصف.
هل نحتاج إلى أن نذكّر المسؤولين الّذين فقدوا الحياء أنّ "الماء حياة"؟ أو نذكّرهم بأنّهم إن أرادوا أن يكملوا في سياسة استغلال البلد ونهبه، عليهم الإبقاء على البلد أوّلًا؟ فمن دون معالجة سريعة لهذه الأزمة الحيويّة، ستتفاقم المعضلة، وستعود بعواقب أوخم، خصوصًا على المستوى الصحّيّ والسلامة العامّة، والموضوع لا يتحمّل المراوغة والمماطلة... وليسجّل التاريخ الحديث ولو لمرّة واحدة أنّه ثمّة حلّ ما قدّ طُبِّق في لبنان من دون منافع أو مصالح شخصيّة، وسنكون من الشاكرين.