كانت حركة الاتّصالات التي تجري على خطّ إنتخابات رئاسة الجمهوريّة لافتة الاسبوع الماضي، وخصوصاً بين "حزب الله" ورئيس الحزب "التقدميّ الإشتراكيّ" وليد جنبلاط الذي أبدى تأييداً مشروطا لأحد مرشّحي فريق الثامن من آذار الأساسيين، وهو رئيس تيّار "المردة" سليمان فرنجيّة. وقد اعترض هذا التحوّل الواضح في السياسة، نشر "الحزب" فيديو فوق حقل "كاريش"، تبعه ملف الحدود البحريّة والتنقيب عن النفط والغاز، بالاضافة إلى زيارة الوسيط الاميركيّ للمفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل آموس هوكشتاين إلى بيروت.
وقد برزت ثلاثة تطورات مهمّة على خطّ رئاسة الجمهوريّة. الاوّل تمثّل بتقارب جنبلاط من "محوّر الممانعة" مُجدّداً، ليؤكّد أنّه من دون تسويّة مع "الثنائيّ الشيعيّ" لا حلّ في الإنتخابات الرئاسيّة. وقد ساهم هذا الامر بزيادة الشرخ في صفوف "المعارضة" في مجلس النواب التي تبحث عن إيصال مرشّحها إلى بعبدا، والبدء بالتغيير من رأس الهرم. كذلك، اهتزت العلاقة بين "القوّات اللبنانيّة" و"التقدميّ"، وثبت أنّها قائمة فقط على التنسيق في الانتخابات النيابيّة. ويرى مراقبون أنّ إنتقال "زعيم المختارة" الى ضفة"حزب الله" سينسحب أيضاً على نواب آخرين من فريق 14 آذار ومستقلّين، وبشكل خاصّ إذا تبنّى "الحزب" ترشّيح فرنجيّة أو أي شخصيّة وسطيّة آخرى. من هذا المنطلق، فإنّ الكتل "المعارضة"، أو ما تبقى منها، أمام فرصة تاريخيّة لتوحيد جهودها، والدفع بمرشّح قادر على إجتذاب الاصوات من 8 آذار، وفي مقدّمتهم نواب تكتلّ "لبنان القويّ".
أمّا التطوّر الثاني، فهو إعلان برّي أنّه لن يدعو إلى جلسة لانتخاب الرئيس الجديد في الاوّل من أيلول، إنّ لم يقم مجلس النواب بإقرار الاصلاحات الضروريّة لاكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدوليّ. ويعتبر مراقبون أنّ رئيس المجلس يُدرك صعوبة التوصّل لتسويّة في الوقت الراهن، لذا، أعطى المزيد من الوقت لفريقه بشكل خاصّ لايجاد مرشّح، تتّفق أغلبيّة الكتل النيابيّة على دعمه. ويُضيف المراقبون أنّ ترشّيح النائب جبران باسيل معلوم سلفاً في أروقة عين التينة، و"حزب الله" يُريد رئيساً مقبلاً علاقته بحليفه الشيعيّ طيّبة.
ورأى مراقبون من خلال جولات فرنجيّة من الديمان إلى عين التينة بداية لاستطلاع الآراء حول حظوظه بالوصول إلى بعبدا. فالوجهة الاولى كانت عند البطريرك المارونيّ الذي حدّد مواصفات الرئيس الجديد. ويُتابعون أنّ فرنجيّة لديه بعضها، وأهمّها أنّه وسطيّ، لكنّه قريب جدّاً من "حزب الله"، الامر الذي قد ترفضه دوائر الصرح البطريركي، وخصوصاً بعد قضيّة المطران موسى الحاج التي لا تزال موضع جدل بين بكركي والضاحيّة الجنوبيّة. وأيضاً، أتت زيارة فرنجيّة لبرّي، وتصريحه بعد اللقاء أنّه ورئيس المجلس "فريق واحد"، لتؤكّد أنّ الاخير يدعمه بقوّة، فيما يُعارض تكرار سيناريو إنتخاب الرئيس ميشال عون عبر جبران باسيل.
وقد لاقى باسيل فرنجيّة في التسويق لنفسه رئاسيّاً، عبر التقارب أكثر فأكثر من الامين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله إنّ عبر دعم "المقاومة"، والتشديد على ما تقوم به للحفاظ على حقوق لبنان البحريّة، وثرواته الطبيعيّة، وصولاً إلى استخدام خيار القوّة مع إسرائيل، وإنّ بالتوجّه نحو إيران لحلّ مشكلة الكهرباء. ويُشير مراقبون إلى أنّ باسيل من خلال هذا الخطاب التقاربيّ من "الحزب"، يضرب ما يقوم به الرئيس عون دبلوماسيّاً مع هوكشتاين. ويقولون إنّ الحرب ستُؤخّر حكماً التوصّل لاتّفاق قريبٍ مع تل أبيب، بالاضافة إلى أنّ لبنان لن يقدر على إستقطاب شركات التنقيب العالميّة ولا من إستخراج نفطه إنّ توتّر الوضع الامنيّ في المنطقة.
ويلفت مراقبون إلى أنّ دمشق وإيران ليستا بعيدتين عن كلّ ما يجري في لبنان. فسوريا عادت إلى لعب دورها السياسيّ الفاعل بعد نجاح الرئيس بشار الاسد في البقاء بالحكم. ويُضيف المراقبون أنّه صحيحٌ خسر الكثير من المقربين لسوريا مقاعدهم النيابيّة وفشل البعض الاخر في الوصول إلى مجلس النواب، إّلا أنّها لا يزال لديها حلفاء أقوياء، وفي مقدمتهم "الثنائيّ الشيعيّ" و"التيّار الوطنيّ الحرّ" الذي يطمح إلى إعادة العلاقة بين لبنان وسوريا إلى ما كانت عليه قبل الحرب هناك. ويُردف المراقبون أنّ ملف النازحين والضغط على سوريا من خلاله، وخصوصاً من قبل فريق "العهد" وباسيل، سيكون عاملاً أساسيّاً لاختيار دمشق الشخصيّة التي ستدعمها وتتمنى وصولها إلى بعبدا.
وفي السياق عينه، فإنّ الجوّ الرئاسيّ ليس بعيدا عن طهران، التي تطمح إلى وصول رئيسيّ حليفٍ مثل ميشال عون، يُؤمّن الغطاء لـ"حزب الله" وسلاحه ودوره في المنطقة. إلى ذلك، أصبح لايران موقفا قويّاً من الحدود البحريّة اللبنانيّة. فحقلا "كاريش" و"قانا" يُشكلان وسيلة ضغط في الملف النوويّ الايرانيّ على واشنطن والعواصم الاوروبيّة التي تبحث عن غاز الشرق الاوسط لسدّ عجزها، جراء الحرب الاوكرانيّة - الروسيّة. وأيّ عمل عسكريّ من جهّة "حزب الله" سيُقابل بردٍّ إسرائيليٍّ، سيُزعزع الاستقرار في المنطقة النفطيّة، وسيرتد سلبيّاً على انتخابات رئاسة الجمهوريّة. من هنا، يختم مراقبون أنّ برّي ينتظر تبلوّر الاوضاع الامنيّة ليدعو إلى أولى جلسات الانتخاب، وهو يُحاول كسب الوقت ريثما تتوضّح صورة المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، والتحالفات النيابيّة الجديدة.