لم يندمل بعد "الجرح العميق" الذي أحدثه انفجار مرفأ بيروت قبل عامين، وتحديدًا في الرابع من آب 2020، ليس لأنّ اللحظة "المشؤومة" لم تُمحَ من ذاكرة اللبنانيين بعد، وهي لن تُشطَب على الأرجح، لأنّ تداعيات "المجزرة" لم تنتهِ فصولاً بعد، فلا العدالة تحقّقت، ولا بيروت عادت كما كانت.
في الرابع من آب، يستذكر اللبنانيون يوم الانفجار المروّع ولحظاته المرعبة. لكلّ منهم قصّته المؤلمة مع هذا التاريخ، حتى لو لم يفقد قريبًا أو صديقًا أو حبيبيًا بنتيجته. فكلّ من كان في بيروت، وحتى خارجها، شعر أنّ الانفجار وقع بقربه، كما نال نصيبه من الزجاج المتطاير. أما من لم يكن، فاقشعرّ بدنه بمجرد رؤية مشاهد المدينة المدمّرة، وسماع قصص الضحايا القاسية، ورؤية أهاليهم وهم يبحثون عنهم بين الشوارع والمستشفيات، أو ما بقي منها.
في هذا اليوم أيضًا، يتذكّر اللبنانيون وجه عاصمتهم الذي لم يعد إلى طبيعته، رغم مرور عامين. يتذكّرون أنّ بيروت قبل الانفجار ليست نفسها أبدًا بيروت بعد الانفجار. يتذكّرون "الفرحة" التي اختفت، و"الضحكة" التي سقطت. يتذكّرون مرفأهم الذي تحوّل إلى ركام، بل إلى "نذير شؤم" بالنسبة إلى كثيرين. يتذكّرون واقعًا اختلف كثيرًا اليوم، بعدما جاء الانفجار ربما ليفصل بين مرحلتين، ويمهّد لانهيار قاسٍ لم يشهدوا مثيلاً له من قبل في كلّ تاريخهم.
لا تحقيقات ولا من يحزنون
لكن ثمّة مفارقة أكثر "إيلامًا" ترافق الذكرى هذا العام، كما في العام الماضي، وكلّ الأيام، إذا ما صدقت مقولة "كل يوم هو 4 آب". إنّها باختصار التحقيقات في الجريمة، التي لم تتقدّم خطوة واحدة على مدى سنتين، بعدما كان "الطموح" أن تُنجَز في خمسة أيام، فإذا بها بعد سنتين، معطّلة بالكامل، بينما يد المحقق العدلي الثاني الذي كُلّف بالتحقيق في الجريمة، القاضي طارق البيطار، مكبّلة، بقرار "سياسيّ" شبه متّخذ بحقه، بمنعه من الوصول إلى شيء.
أما سبب كلّ هذه "المعمعة"، فهو ببساطة المسار القانوني الذي اختاره القاضي البيطار، حين ادّعى على سياسيين ومسؤولين، بينهم نواب ووزراء سابقون، بجرم الإهمال الذي أدّى إلى الانفجار المروّع، علمًا أنّ هناك من يتّهم القاضي في المقابل باتباع نهج "التسييس والشعبوية"، ويعتبر أنّ الادعاء على السياسيين ليس من صلاحياته، بالنظر إلى "حصانة" النواب، فضلاً عن "تجاوزه" اختصاص المجلس الأعلى للرؤساء والوزراء.
مناشدات الأهالي
بعيدًا عن المسار القانوني والقضائي والسياسي المخيّب للآمال، سيكون الرابع من آب "فرصة" للجميع للاستماع من جديد إلى "صرخة" أهالي الضحايا الذين بُحّت أصواتهم على مدى عامين، من دون أن يلقوا الحدّ الأدنى من التجاوب المأمول. سيقول هؤلاء مجّددًا إنهم يعرفون أنّ الحقيقة لن تعيد لهم أحبّتهم، لكنّها بالحدّ الأدنى تستطيع أن "تفشّ خلقهم"، هم الذين يتأمّلون أن يروا مسؤولاً واحدًا، خلف القضبان.
سيقول هؤلاء إنّ تهم "التسييس" مردودة لأصحابها، فـ"التسييس الحقيقي" هو الذي يمارسه بعض السياسيّين لإلغاء التحقيق وإنهائه في مهده. سيذكّرون كيف حاول هؤلاء، بلا خجل، أن يخرقوهم، ونجحوا في جانب من مسعاه، عبر "تحريض" بعض الأهالي على التحقيق. سيذكّرون كيف لجأ فريق سياسي إلى "ابتزاز" الآخرين عبر تحويل الحكومة إلى "رهينة" من أجل إزاحة المحقق العدلي، في "سابقة" لم تحصل سابقًا في بلد يصنّف نفسه "دولة قانون".
في مقابل مناشدات الأهالي، ثمّة فريق لا يزال متمسّكًا بمقولة "التسييس". يقول إنّه يشعر مع الأهالي، ويتفهّم حرقتهم، لكنّه يرفض أن يكون هذا الفريق أو ذاك "كبش محرقة". يتحدّث عن "مؤامرة" ضدّ هذا الفريق، ربطًا بالظروف المحيطة إقليميًا ودوليًا. وثمّة من يردّ على هذا "المنطق" بوجوب الخضوع للقانون، فليُترَك المحقّق لينجز عمله، وبعدها يُبنى على الشيء مقتضاه، بدل الحكم سلفًا على "النوايا"، لإعدام تحقيق عن بكرة أبيه.
ليس الرابع من آب يومًا عاديًا، ولا يمكن أن يكون. صحيح أنّ كلّ يوم يجب أن يكون 4 آب، لأنّ قضية بحجم بوطن، مثل جريمة تفجير المرفأ، يجب أن تكون حاضرة في كل يوم، للمطالبة بالحقيقة، ثأرًا لدماء الضحايا. لكنّ ليوم الذكرى "وقعه" الخاص، وقع لا يجب أن يبقى محصورًا في الوجدانيات والعواطف، على كثرتها، وأهميتها، بل يجب أن يشمل التحقيق الذي بات الاستمرار في تجميده، "جريمة فوق الجريمة"، وفقًا لكلّ المعايير!