بمعزلٍ عن أيّ شروط سياسيّة تحكمُه، خاضَ رئيس مجلس النواب نبيه برّي مؤخراً دوراً كبيراً في إرساء مُعادلات جديدة، فتمكّن قبل نهاية عهد رئيس الجمهوريّة ميشال عون إحداث هزّات كبيرة عبر إدارة سيناريوهات اللعبة السياسيّة من موقعٍ قوّي جداً ومن دون أي خسائر.
في الواقع، هي ليست المرّة الأولى التي يلعبُ فيها برّي على وتر التّسويات، إذ كان دائماً العرّاب الأبرز فيها. وحتماً، إن لم يكن برّي سبب أي تسوية، إلّا أنّه سيكونُ المُساهم الأكبر فيها .
مؤخراً، كان دور برّي كبيراً في جمع "حزب الله" مع رئيس الحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط، وبقوّة كان له الدور الأكبر في حصول التقارب الذي أدى إلى خلطِ أوراقٍ سياسيّة كثيرة وتحديداً بعد الانتخابات النيابية في أيار الماضي.
بشكل أو بآخر، أراد برّي أن يحدثَ خضّة كبيرة في المشهد، كاسراً حائط التشرذم بين أطرافٍ عديدة مُقرّب منها، في حين وجد أن الفرصة متاحة لتسويةٍ ما تريح الاجواء.
عملياً، أدركَ بري خلال جلسة انتخابه رئيساً لمجلس النواب بعد انتخابات 15 أيار أن هناكَ هجمة شرسة ضدّه، فالتكتلات المناوئة له تتعاظم في حين أن المسعى لإقصائه عن رئاسة المجلس كان واضحاً وكبيراً. عندها، استدرك "الإستاذ" كيفية التعاطي مع "الإنقلاب"، فلجأ إلى عناصر أساسية يمكن أن تساهم في إحباط هجمة خصومه عليه من جهة، وسلبِ هؤلاء عنصر قوّة كانوا يريدون استغلاله لصالحهم من جهة أخرى. وهنا، يُطرح السؤال: كيف حصل ذلك، وكيف سجل برّي النقاط الايجابية عبر تقارب "حزب الله" وجنبلاط؟
من دون أدنى شك، يعتبرُ تلاقي حارة حريك مع المختارة بمثابة نصرٍ سياسي لبرّي وذلك لاعتبارات عديدة أولها هو أن رئيس مجلس النواب تمكن من وضع تسوية تساهم في ترتيب "الإختلاف" بين طرفين أساسيين في البلد. كذلك، فإن برّي وعبر حركته التي قام بها، استطاعَ ضمان حليفيه. فمن جهة، حصّن بري "حزب الله" وتمكن من إزاحته بعيداً عن سهامِ جنبلاط أقله في المرحلة المُقبلة التي ستشهد عهداً رئاسياً جديداً. أما من جهة أخرى، فقد حافظ بري على موقع المختارة كضمانةٍ سياسية، واستطاع أن يكرّس نصراً جديداً لجنبلاط من خلالِ استمالة طرفٍ أساسي نحوه يتمثل بـ"حزب الله".
حُكماً، تعتبرُ المختارة في لعبة التقارب البارزة في موقع المُنتصر، وما استقطابها للحزب إلا دلالة على أن زعيمها حاضرٌ بقوة ويمكنه التأثير وقلب المعادلات نيابياً، سياسياً وحكومياً ورئاسياً. ولهذا، أراد برّي إرساء معادلة جنبلاط - حزب الله من أجلِ التحرك بحرية في أي استحقاق يريده، فاتحاً المجال أمام تقاربٍ أكبر بين مختلف الأطراف الأخرى للوصول إلى تسوية شاملة.
إضافة إلى ذلك، يعدّ التلاقي بين "حزب الله" وجنبلاط عنصر قوة لبرّي. فالأول هو الداعم له تشريعياً وسياسياً ونيابياً في حين أن الثاني يمارس الدور القريب أيضاً باتجاه رئيس المجلس. إلا أنه وخلال الفترة الأخيرة، كانت هناك محاولات عديدة لاستقطاب جنبلاط نحو المقلب الآخر تحت شعار "السياديين" والمناوئين لـ"حزب الله".
كذلك، وبخطوته الأخيرة، كان برّي حاسماً في جذب جنبلاط بعيداً عن حزب "القوات اللبنانية"، إذ استشعر أن أي تقاربٍ بين هذين الطرفين خارج محور الانتخابات، يمكن أن يشكل ازعاجا سياسياً . إلا أن الحقيقة تشير إلى أن جنبلاط لا يكسرُ حليفه لصالح رئيس "القوات" سمير جعجع، فهو لا يُجاري الأخير على حسابِ بري، في حين أن "الكباش" الذي كان قائماً بينه وبين "حزب الله" لا يُوصل المختارة إلى مرحلة ينقلبُ فيها جنبلاط على برّي وتحديداً عندما يتعلق الأمر برئاسة الجمهورية. هنا، فإن الدليل الأكبر على ذلك هو أن جنبلاط كان بعيداً كل البعد عن تبنّي جعجع للرئاسة، وهي خطوة تُحسب للأخير بالنسبة للثنائي الشيعي.
مع كل هذا، استطاع برّي من خلال ما فعله دعم "حزب الله" بقوّة، وبشكل أكبر تمكن من إراحتِه ضمن الجبهة الداخلية. ففي الواقع، يعتبرُ جنبلاط من أكثر الأطراف المؤثرة على الحزب سياسياً، وفي حال عدم التقارب لكانت حارة حريك ستواجه هجمةً كبيرة متزايدة في ظلّ مرحلة حاسمة. إلا أنه وبعدَ لقاء كليمنصو، كانت الهُدنة الفعلية، فتأسّس الحوار الذي يُمكن لـ"حزب الله" من خلاله الذهاب أكثر في طرح شروطهِ وأفكاره من دون أن يفرضها من موقع المُنفرد. أما الأمر الذي لا يمكن إغفاله فهو أن برّي أدرك حساسية المرحلة التي قد يخوض فيها "حزب الله" معركة عسكرية ضدّ إسرائيل بشأن ملف الغاز، ولهذا قرّر انتزاع دعمٍ مباشر من جنبلاط للحزب وتغطية "وطنية" له من الرموز الأساسيين، الأمر الذي يعزز من الجبهة المحوريّة للحزب بشكل كبير.
على الصعيد الرئاسي، فقد بات لبرّي نصرٌ جديد. فمن جهة، استطاع أن يجذب "حزب الله" باتجاه آخر بمنأى عن رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل. وبقوّة، يمكن لخطوة بري الأخيرة في تحقيق التقارب الشهير أن تجعل الحزب أبعد من المضي في خيار باسيل الذي يرفضه برّي رئيساً. وهنا، قد يقع "حزب الله" في حرب التناقضات بين الحلفاء، لكن المراحل الماضية استطاعت أن تكشف عن تعاطٍ متوازن للحزب مع حليفيه من دون أن يكسر أي جهة على حساب الأخرى.
باختصار، ما يمكن تثبيته بقوة هو أن برّي كان الفائز الأكبر عبر كل ما حصل خلال المرحلة الماضية، إذ تمكن من ترسيخ قوته وشدّ عصب حلفائه وتأسيس جبهةٍ واحدة تُمهّد لعملٍ سياسيّ بمعزلٍ عن الإنقسام. مع ذلك، فإن ما يمكن قوله أيضاً هو أن خطوة بري الأخيرة المتمثلة بجمع جنبلا و "حزب الله"، شكلت مدماكاً أساسياً للمرحلة التي ستلي عهد رئيس الجمهورية ميشال عون، والذي سيدخل العد العكسي اعتباراً من 1 أيلول المقبل.. وحينها، للحديث تتمّة!