مع بداية شهر أيلول الحالي، يُمكن القول إن الأنفاس باتت محبوسةً بانتظار حصولِ أيّ تطورات على خطّ ملف ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
من ناحية، تبدو الأمورُ غير مكتملة العناصر، ومن ناحيةٍ أخرى يمكن التّسليمُ بمعادلة واحدة: الإتفاق قائمٌ لا محالَ في ظلّ الضغط المتصاعد من أكثر من جهة. ففي لبنان، يسعى "حزب الله" لزيادةِ حجمِ التأهّب في حين أن الإسرائيليين يتحضرون عسكرياً. أما الأميركيون، فيسعونَ قدر الإمكانِ لتجنّب الحرب، وهو أمرٌ برزَ بقوّة على خط المحادثات الأخيرة التي أجراها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في لبنان خلال زيارتِه الأخيرة.
ورغم بروز معطيات إيجابية، أمس الأربعاء، عن إمكان زيارة الوسيط الأميركي لبنان خلال الأسبوع المُقبل، يبدو صعباً تماماً حسم تفاصيل "لحظة الصفر" المرتبطة بأي معركة قد يخوضها "حزب الله" في حال الوصول إلى طريق مسدود على صعيد الترسيم.. ففي خطاباته الأخيرة، دأب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله على تحضيرِ شارعه لخوض حرب مُحتملة بكل المقاييس. وبشكلٍ مباشر، يبدو أن الحزب متمسكٌ تماماً بملف الترسيم إذ وضعه في سُلّم أولوياته بمعزلٍ عن الملفات الأخرى الضاغطة.
لماذا يتمسّك الحزب بهذا الملف؟
منذ حرب تمّوز في العام 2006، كان "حزب الله" يُهدّد بالرد على أي اعتداءٍ إسرائيلي ضدّ لبنان. حينها، كانت الخطوة "دفاعيّة"، أي أن الحزبَ كان في موقع الدفاع عن نفسه بالدرجة الأولى، لكنّه لم يكُن مبادراً باتجاه فتح معركة واسعةٍ على غرارِ ما يتم الترويجُ له اليوم. إلى جانب ذلك، قد يستحضرُ البعضُ سيناريوهات العمليات العسكرية العديدة التي نفذها "حزب الله" على مدى السنوات الماضية، وقد يتم وضع تلك العمليات في خانةِ إثبات معادلة أساسية، وهي أن الحزبَ شاء إيصال رسالة واضحة وهي أنه ما زال موجوداً وغير بعيدٍ عن أيّ تحرّك عسكري.
أما اليوم وفي هذه المرحلة بالتّحديد، ما يمكن تثبيتهُ هو أنّ الحزبَ حافظ على موقعه الدفاعي، لكنه انتقل أيضاً إلى منحى هجوميّ، والدليل على ذلك هو أنّ التصعيد الخطابي يشيرُ إلى أن الحزبَ سيكون هو المُبادر باتجاهِ أي عملية عسكرية ضدّ إسرائيل وليس العكس. هنا، الأمرُ يعتبر غير عادي تماماً، علماً أنه في العام 2006، كان هناك انقسامٌ بشأن من بدأ معركة تموز أولاً. حينها، اعتبر البعض أن الحزب أقحم لبنان في حربٍ مدمرة، بينما وجد البعض الآخر أن "حزب الله" كان في موقع الدفاع عن نفسه، وأن إسرائيل كانت تعدّ العدة لشن حربٍ على لبنان، وتذرعت بحادثة خطف الجنديين في خلّة وردة بمنطقةِ عيتا الشعب آنذاك من أجل فتح معركةٍ والقضاء على "حزب الله".
في الوقتِ الراهن، قد يكونُ تمسّك "حزب الله" بملف ترسيم الحدود البحرية نابعاً من 4 أمورٍ أساسية وهي:
أولاً: يعدّ هذا الملف عاملاً أساسياً لـ"تعويم سلاح حزب الله" من جديد. فمن جهة، يعتبر الحزب أن معركة الثروات البحرية الغازية والنفطية هي أولوية كونها ترتبطُ بحقوقٍ وطنية، وبالتالي لن يكون هناك انقسامٌ كبير حول أي مبادرة قد يقومُ بها الحزب بشأن حماية تلك الحقوق أو تحصيلها.
حُكماً، هذا ما يجري اليوم بشكل واضح، إذ إن الحزبَ يؤكد مراراً وتكراراً أن سلاحه هو الذي فرض الرّعب على العدو الإسرائيلي، وبالتالي استطاع أن يدفع الأمور باتجاه التفاوض الذي يعدّ لبنان صاحب قوّة فيه.
وفي حال تحقق سيناريو توقيع الاتفاق المُنتظر بشأن الترسيم من دون أي معركة، عندها سيؤكّد "حزب الله" صوابية بقاء سلاحه، وبالتالي سيتمسك به أكثر أمام اللبنانيين، وسيُثبت أن معادلة الردع المرتبطة بـ"المقاومة" هي الأساس دفاعياً وهُجومياً.
ثانياً: ترى جهاتٌ مناوئة لـ"حزب الله" أنّ ملف ترسيم الحدود البحرية هو النقطة الأكثر ملاءمة للحزب في الوقتِ الراهن وتحديداً بعد المسار الذي شهده خلال السنوات الأخيرة الماضية. بشكلٍ أو بآخر، بدا واضحاً أن الرأي العام اللبناني تأثّر في السنوات الثلاث الأخيرة بفكرةٍ أساسها أن "حزب الله" كان السبب المحوري للأزمة الاقتصادية والمالية. ولكسرِ تلك الصورة النمطيّة، وجد "حزب الله" في مسألة ملف الترسيم مفتاحاً أساسياً لإثبات أنه جهة لا تفتعل أزمات بل تساهمُ في إيجاد حلول لها عبر القوة العسكرية التي تخيف الإسرائيليين. مع ذلك، فإن تمسك "حزب الله" ببند حصول لبنان على حقه بالتنقيب على النفط سيكون مفتاح الحل للأزمة القائمة، وفي حال تحقق هذا المطلب عندها سيؤكد الحزب أن ذلك حصل بسبب قوة سلاحه ونفوذه. وفي هذه الحالة، سيتمكن من تصحيح الأنظار بشأنه، وبالتالي تأسيس نظرة جديدة لدى الرأي العام مفادها أن الحزب كان مُساهماً بحل الأزمة، لأن التنقيب عن النفط سيُنعش لبنان اقتصادياً ومالياً.
ثالثاً: تعتبرُ المرحلة الراهنة أساسية لـ"حزب الله" من أجل تثبيتِ معادلات عسكرية جديدة. ففي حال حصول أي معركة، سيُثبت "حزب الله" أنه قوة عسكرية هائلة لا يُمكن تخطيها أو هزيمتها. كذلك، سيحاول الحزبُ التأكيد مجدداً أن باستطاعته إسداء ضرب جديدة للجيش الإسرائيلي، مع تبثيت معادلة جديدة وهي إن زمن مهاجمة إسرائيل للبنان قد ولّى، إذ أصبح هناك قوة هجومية عند "حزب الله" يمكنها بث الرعب في الداخل الإسرائيلي وتحقيقِ انتكاساتٍ ضمنه.
رابعاً: ما يتبيّن بشكل واضح هو أنّ "حزب الله" أراد تثبيت نفسه مُجدداً كعنصرٍ أساسي في الداخل وذلك عبر تصحيحِ نظرة اللبنانيين بشأنه. وضمنياً، قد تكون معركة ترسيم الحدود هي أساسية لـ"حزب الله" لإزالة الشوائب التي طالت سجلّه وأدت إلى انقسامٍ كبير حوله، مثل المعارك السياسية الداخلية التي خاضها أو الحرب السورية التي شارك فيها.
إذاً، وانطلاقاً من كل ما سبق، يمكن القول أن "حزب الله" يحاول تبثيت ركائز مختلفة تخصّه، فهو يبادر باتجاه ملف الترسيم لمعالجة مختلف الأمور المتعلقة به، وما يُساعده هنا هو أن قوته العسكرية قائمة فعلياً وتساهم في ترهيب الإسرائيليين، وهنا نقطة القوّة الأساس التي قد تقوده نحو كسب الرهان قريباً.