ما زلت أذكر ذلك اليوم تماماً. أكاد أجزم أنني في تلك اللحظة رأيت الحياة تلملم ما تبقى من فتات روحها لتأخذه وتهرب. كانت تنظر إلى جدران المستشفى البيضاء طوال الوقت من دون أن يرفّ لها جفن، إلى أن خرجت من فمها أحرف بائسة من أسفل قناع الأكسجين، فزفرت: "ليش ما متت"؟.
في لحظة مصيرية، لفظ الموت صديقتي من بين أنفاسه بعدما جاهدت اقتحامه عنوة عن كل شيء. فلها، ولكلّ من يحاول أن "ينجو" من نفسه، أكتب هذا المقال.
عند الوقوف وجهاً إلى وجهٍ مع الموت، ماذا يخيّل لمن يقدم على الإنتحار؟ هل يستوعب أن لحظاته الأخيرة على قيد الحياة هي تلك التي يعيشها الآن؟ أسئلة تبدأ ولا تنتهي، حملتها معي من خلال هذه التجربة البسيطة التي يمكن اعتبارها تمهيداً لواقع متفشّ لـ"ثقافة الإنتحار" المتزايدة في لبنان. فصحيح أن الإعلام يوثّق وينقل حالات الإنتحار التي يقدم عليها المواطنون والسكان على الأراضي اللبنانية، إلا أن كل حالة مختلفة عن الأخرى، سوى أنها مجتمعةً، تنضوي تحت واقع معيشي يتأزّم أكثر فأكثر يومياً، ويضيّق فسحة العيش على الشعب المخنوق أصلاُ بأنفاسه. وفي أيلول المخصص للتوعية على الإنتحار، نتحدث عن واقع حزين يعيشه اللبناني.
في هذا الإطار، أشارت ميرا دالي بلطة، المشرفة على خط الحياة في جمعية "Embrace"، إلى أنه في خلال الأزمة التي سقطت على رؤوس اللبنانيين، أي منذ العام 2018 حتى اليوم، أقدم 622 شخصاً على الإنتحار، والعدّاد يستمّر مع محاولة شخص ما كل يومين إنهاء حياته.
وفي حديث لـ"لبنان 24"، أشارت بلطة إلى أن الصحة النفسية هي حق للجميع، ولكل من يمرّ بصعوبات نفسيّة فقرّر إنهاء حياته من خلال الإقدام على الإنتحار، مشددة على أنّه عندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، يكون قدّ مرّ بالفعل بتراكمات عدّة تصل به إلى مرحلة الوجع، فقدان الأمل وعدم رؤية أي حلول لمشاكله سوى وضع حدّ لحياته.
من هنا، أكدت بلطة أنه يمكن للمحيطين بالشخص الذي عقد العزم على الإنتحار أن يكونوا على دراية بالوضع الذي وصل إليه من خلال بعض المؤشرات، مؤكدة أن الإضاءة على هذه الأعراض هي جزء كبير من التوعية. ومن هذه العلامات الخطرة: الحديث المستمر عن الموت، فقدان الأمل، الإنعزال والوحدة، التخلّي عن الممتلكات، كتابة وصيّة أو رسائل وداع، فقدان الشهية وخسارة الوزن، إهمال الذات من خلال عدم إيلاء الإهتمام للنظافة الشخصية، الإفراط باحتساء الكحول واللجوء للمخدرات، فضلاً عن إهمال القيام بالواجبات الروتينية.
وتحدثت بلطة عن نوعية الإتصالات التي يتلقاها المتطوعون في الجمعية من أشخاص يفكّرون أو لديهم النية في الإقبال على الإنتحار والعديد منها ينطلق من الوضع الإقتصادي والمعيشي المزري الذي وصلت إليه البلاد. فقالت مثلاً، إن أهالي كثر يتصّلون وهم فاقدون الأمل من الحياة بسبب شعورهم الكبير بالذنب تجاه أولادهم، وهنا دور الجمعية في تذكيرهم بدورهم الأساسي والمعنوي الذي قد يكون في الكثير من الأحيان أكثر أهمية من ذلك الماديّ.
واعتبرت بلطة أنه مع كل ما يمرّ به لبنان، نحن اليوم بأمسّ الحاجة لرفع نسبة الوعي على الصحة النفسية في المجتمع لأن مجرّد الحديث عن موضوع الإنتحار، يساهم في التخفيف من وصمة العار التي تلاحق الناس من خلال دفعهم للتحدث عن مشاكلهم واللجوء لطلب المساعدة، الأمر الذي يخفف من نسب الإنتحار.
وفي هذا الإطار، شددت على أن الوقاية من الإنتحار لا تقتصر على الدعم النفسي، بل تتطلّب أيضاً أماناً اقتصادياً واجتماعياً، تأمين فرص عمل وبيئة مهنية آمنة، توفير ضمان صحّي لجميع المواطنين، تعزيز سياسيات تحمي من العنف والإضطهاد، حماية من الكحول والمخدرات، تعزيز الروابط الإجتماعية، فضلاً عن أهمية تعليم الأطفال مهارات حياتية منذ الصغر، على أن يكون معززاً بتربية صحية من جانب الأهل.
وروت بلطة أنه في نهاية الإتصال، يقول العديد من المتصلين إن غريزة الإنسان للإستمرار تتعزّز بعد تعبيره عن الأحاسيس الصعبة التي يمرّ بها، والتي يصعب مشاركتها مع من هم في المحيط، كما أنّهم يختتمون حديثهم مع المتطوّعين وهم يشعرون بالأمان والإطمئنان، لأن شخصاً ما تمكّن من أن يريهم ذرّة الأمان التي كانت مفقودة لديهم.
لا ينفع كلام الشعر عن الحياة الوردية مع من رأى الإنتحار مناسباً له. فمن عقد العزم على وضع حدّ لأنفاسه ودقات قلبه، أطاح بالشاعر محمود درويش وبأمله، جازماً بأن على هذه الأرض، ما من شيء يستحق الحياة. إلا أن الحمل الثقيل، لا يمكن لكتف مكسورة أن تحمله، بل يجب أن يُسند من جهة سليمة. فلصديقتي التي لم ألحظ ألمها ولكلّ من يعافر في هذه الدنيا بمفرده: أنتم رسالة أملٍ إلى العالم الغارق في ظلامه.