"إذا لم يَنتِفض النوابُ على أنفسِهم ولم يَنتخبوا رئيسًا وطنيًّا وسياديًّا ومؤهَّلًا لتَسَلُّمِ مقاليدَ الحكم، فلا يَلُومَنَّ الشعبَ إذا انتفضَ عليهم جميعًا". قالها البطريرك الماروني بشارة الراعي صراحةً، في عظة الأحد، في معرض التحذير من "جريمة" التسليم بشغور رئاسي، وكأنّ انتخاب الرئيس "مستحيل"، معتبرًا عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية في الوقت المحدّد، "فعلاً إراديًا وتخريبيًا وتدميريًا".
يضع كثيرون كلام البطريرك الماروني هذا في إطار حضّه المتواصل على إنجاز الاستحقاق في مواقيته، بعيدًا عن أيّ "رهانات" قد تكون لدى هذا الفريق أو ذاك، ممّن يجاهرون أساسًا بانتظارهم وقوع "الفراغ"، على أساس أنّ النقاش "الجدّي" يبدأ بعده، وهو ما يصرّ الراعي على أنّه سيكون بمثابة "جريمة"، تمامًا كاستخفافه بالاجتهادات حول "انتقال الصلاحيات"، لأنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس، ولا شيء سوى ذلك.
لكنّ كلام الراعي قد يتجاوز، برأي كثيرين، منطق "الحثّ والحضّ"، فالشارع قد يصبح "ملاذ" المعترضين قريبًا جدًا، بمعزل عن مواقف الكتل وانتظارات النواب، وقد سبق لنواب "التغيير" أن لوّحوا به أساسًا عندما أطلقوا مبادرتهم الرئاسية، فيما يترقّب كثيرون موعد السابع عشر من تشرين، ذكرى "انتفاضة" 2019، فهل نكون على موعد مع "انتفاضة" جديدة، تكاد كلّ "مقوّماتها" تكون حاضرة وتنتظر؟!
كلّ المقوّمات متوافرة
يقول المتابعون إنّ كلام البطريرك الماروني أتى من بوابة "تحذيرية"، لكنّه أطلّ على واقع "يخشى" الكثيرون منه في هذه المرحلة، فـ"لعبة الشارع" حاضرة على أكثر من مستوى، إذ يلوّح بها أكثر من فريق، من "التغييريين" الذين يقولون إنّهم يمثّلون "روح الثورة" التي انطلقوا بموجبها في 17 تشرين الأول 2019، إلى "التيار الوطني الحر" الذي يؤكد أنصاره أنّهم "عائدون" إلى الشارع مع انتهاء "ولاية" الرئيس ميشال عون.
قد لا يكون عدم انتخاب رئيس الجمهورية سببًا كافيًا برأي كثيرين لـ"انتفاضة"، فهموم الناس في مكانٍ آخر، وقد اعتادوا على "التطبيع" مع الاستحقاقات السياسية، إلا أنّ ما يخشاه كثيرون، أن يكون عدم إنجاز هذا الاستحقاق، هو بمثابة "السبب المباشر" لانتفاضة باتت كلّ مقوّماتها متوافرة، بل متراكمة، في ظلّ الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي لا تنتهي، والتي ما عاد سرًّا معها أنّ الناس ما عادت قادرة على الصمود والتحمّل والصبر أكثر.
ولعلّ الأكيد أن مثل هذه "الانتفاضة" إن وقعت اليوم، فلن يكون بوسع السياسيّين أن "يتنصّلوا" منها، ويهربوا على جري عادتهم إلى "تخوين" المشاركين فيها، لأنّهم بمجملهم سيكونون قد أثبتوا مرّة أخرى أنّهم يرمون بالبلاد في "المجهول"، من دون أيّ اعتبار للتداعيات "المدمّر" لمثل هذا الأمر، وما عجزهم عن إنجاز استحقاق بديهي كانتخابات الرئاسة سوى خير دليل، وهو الذي يفترض أن يمرّ بسلاسة، ومن دون "تعقيدات" تُذكَر.
خارطة طريق الحلّ
يعتبر العارفون أنّ الحلّ يبقى ممكنًا، بما يتيح تفادي "انتفاضة" جديدة، قد لا يكون الكثيرون قادرين على تحمّل نتائجها، إلا أنّ هذا الحلّ يتطلب مقاربة مختلفة من معظم القوى السياسية، ولا سيما الأساسية منها، ويتطلب منهم الالتزام بـ"خارطة طريق" واضحة وصريحة، يُعتقَد أنّ العمل عليها قد تأخّر كثيرًا، خصوصًا أنّ المجتمع الدولي دعا إليها مرارًا، ولا سيما بعد المبادرة الفرنسية وشعارها الشهير "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم".
وتنطلق خارطة الطريق هذه من إنجاز الاستحقاق الرئاسي بمقاربة مختلفة جذريًا عن النقاش الحاصل حاليًا، سواء من خلال المواصفات المطلوب في الرئيس العتيد، الذي ينبغي أن يكون "إصلاحيًا إنقاذيًا" بالدرجة الأولى، بعيدًا عن شعارات "التحدّي والاستفزاز" التي قد لا تكون مفيدة في هذه المرحلة، على أن يكون هذا الرئيس "قويًا" بالمعنى الحقيقي، بحيث يكون قادرًا على فرض "الهيبة"، والحصول بموجبها على "ثقة" المجتمعين العربي والدولي.
وتمرّ خارطة الطريق هذه بطبيعة الحال بورشة الإصلاحات المطلوبة من الحكومة، بشرط تخلي القوى السياسية أيضًا وأيضًا عن "التنافس الشعبوي" فيما بينها، لتضع "المصلحة العامة" فوق كلّ الاعتبارات، بدل أن تبحث عن "انتصارات وإنجازات" تضعها في سجلّها، خصوصًا أنّ الناس التي باتت تشعر أنّها في قلب "جهنّم"، لم تعد قادرة على المضيّ في "الولاء الأعمى" لقوى وأحزاب أوصلتها إلى هذا الدرك، مهما أنكرت أو حاججت.
يقول البعض إنّه باستحقاق رئاسي أو من دونه، فإنّ "الانتفاضة" شبه واقعة، فيما يقول آخرون إن انتخاب الرئيس قد يكون "بارقة أمل"، إن حصل، بدخول البلاد في مرحلة جديدة، وعهدٍ قد يبدّد بعضًا من إفرازات السنوات القليلة الماضية. لكن، بين هؤلاء وأولئك، ثمّة من يقول إنّ كلّ "الرهانات" ما عادت تنفع، لأنّ "الانهيار" حصل، وكلّ "ترقيع" ما عاد ينفع، والمطلوب "تغيير جذري" في المقاربة، تفاديًا للأسوأ!