تتطلّع السعوديّة إلى إنتخاب رئيسٍ للجمهوريّة يكون قريباً منها ومن الدول الخليجيّة، ويُعيد وضع لبنان على الخارطة الدوليّة والعربيّة كيّ تعود إلى لعب دورها الفاعل فيه سياسيّاً وإقتصاديّاً، بعدما زعزع عهد الرئيس السابق ميشال عون العلاقة بين بيروت والرياض، بسبب تصريحات البعض من وزرائه غير المدروسة من جهّة، وتدخّل "حزب الله" في شؤون البلدان المجاورة من جهّة أخرى، كذلك عبر تمايز لبنان عن القرار العربيّ الإجماعيّ بسبب السياسة الخارجيّة التي انتهجها "التيّار الوطنيّ الحرّ" خلال السنوات الستّ الماضيّة.
وعلى الورق هناك 3 مرشّحين وهم قائد الجيش العماد جوزاف عون ورئيس تيّار "المردة" سليمان فرنجيّة، إضافة إلى رئيس "حركة الإستقلال" النائب ميشال معوّض. ورغم أنّ وصول الأخير إلى بعبدا أصبح بعيداً بعدما قرّر رئيس الحزب "التقدميّ الإشتراكيّ" وليد جنبلاط العمل على تسويّة مع الأفرقاء تهدف إلى إنهاء الشغور الرئاسيّ عبر إنتخاب شخصيّة توافقيّة، يبقى بحسب مراقبين أنّه كان أفضل خيار للسعوديّة، لأنّه أوّلاً إبن الرئيس الشهيد رينيه معوّض الذي أسّس لاتّفاق الطائف، ولما يُمثّله سياسيّاً و"سياديّاً"، ومدعوم من الكتل النيابيّة التي تُريد معالجة مشكلة السلاح غير الشرعيّ وإقامة أفضل العلاقات مع المحيط العربيّ والخليجيّ والقائمة على الحياد والصداقة والتعاون.
ورغم قول الكثيرين إنّ المملكة لا تتدخّل في الأسماء الرئاسيّة، إلّا أنّ حضورها قمة باريس الخماسيّة خير دليلٍ على أنّها مهتمّة جدّاً بالوضع اللبنانيّ ويهمّها أنّ يُنتخب رئيسٌ لا يخضع لنفوذ "حزب الله"، علماً أنّه لم يصدر أيّ بيان عن الإجتماع. فمن الواضح أنّ السعوديّة تنظر بحذر إلى الخلافات التي تحول دون توحّد نواب "المعارضة"، كذلك، تنتظر نتائج الحركة الجنبلاطيّة تجاه "الثنائيّ الشيعيّ" و"الوطنيّ الحرّ"، فإذا وصلت إلى إنتخاب قائد الجيش فستُبدي إرتياحها، وإذا نجح رئيس مجلس النواب نبيه برّي بإقناع جنبلاط بفرنجيّة، يقول مراقبون إنّ هذا الأمر سيُشكّل خيبة لدى الرياض. فالسعوديّة لم تُعلن عن موقفها الصريح من رئيس "المردة" لكنّها لا تتمنّى وصول أيّ شخصيّة قريبة من "محوّر الممانعة" وفي الوقت عينه صديقة لسوريا وإيران.
ويُشير المراقبون إلى أنّ جنبلاط لم يحسم قراره بالإقتراع لفرنجيّة خلافاً للعام 2016، لأنّه يُريد أخذ الضوء الأخضر من السعوديّة التي أيضاً لم تنجح بتوحيد جهود النواب السنّة بعد إجتماع دار الفتوى السنّي الشهير منذ فترة، فبقيت كتلة "الإعتدال الوطنيّ" تُغرّد خارج سرب معراب والصيفي، وهي أقرب من أيّ وقتٍ مضى إلى انتخاب فرنجيّة إذا تأمّن التوافق عليه من إنتخاب أحد مرشّحي "المعارضة". ويلفت المراقبون إلى أنّ رئيس "المردة" حاول ولا يزال التقارب من السعوديّة عبر قوله مراراً إنّه يدعم إتّفاق الطائف ويُريد تطبيقه، وهذه النقطة مهمّة جدّاً لدى المملكة، وتدعو إلى تطبيقها قبل أيّ شيءٍ آخر، لأنّها تعتبرها الممرّ الإلزاميّ لحلّ المشاكل السياسيّة في لبنان.
ولكن في المقابل، يعتبر المراقبون أنّ السعوديّة لا تُريد من جهّة أنّ يكون الرئيس اللبنانيّ المقبل يُنادي بـ"الطائف"، ويعمل في الوقت عينه على تطبيق سياسات حليفه "حزب الله"، فهذا يُشكّل تناقضاً بالنسبة إليها، لذا بعد إبتعاد جنبلاط عن معوّض، وعدم دعمه أساساً من النواب السنّة المعارضين، يبقى قائد الجيش المرشّح القادر على جمع اللبنانيين. ويُتابع المراقبون أنّ الرياض تطمح إلى وصول هكذا رئيسٍ لتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيات تضع الإصلاحات القضائيّة والمصرفيّة والإقتصاديّة والماليّة بنداً أوّلاً على طاولتها كيّ تعود الإستثمارات والمساعدات إلى لبنان.
ويقول المراقبون إنّ المملكة ترى في جوزاف عون أنّه استطاع المحافظة على قيادة الجيش في ظلّ الوضع الإقتصاديّ الصعب الذي يمرّ به العسكريّون منذ العام 2019، وأيضاً وصوله إلى بعبدا من شأنه أنّ يُعطي المؤسسة العسكريّة الأولويّة في تأمين المساعدات لعناصرها ماديّاً وعسكريّاً، فالسعودية إلى جانب دول أخرى تُريد تقويّة الجيش والحفاظ عليه لأنّه الضمانة في إستقرار البلاد أمنيّاً، ولم تستطع السياسة التأثير عليه. وفي الإطار عينه، يُضيف المراقبون أنّ الإستمرار بتسليح الجيش يُخفض تأثير السلاح غير الشرعيّ ويُزيد من قوّة الدولة في بسط سيادتها، وخصوصاً عند الحدود والمعابر والمناطق الخارجة عن القانون.
وبعيداً عن السعوديّة، فإنّ هناك جهّات دوليّة أخرى تُؤثّر على الإستحقاق الرئاسيّ، ولكلٍّ منها مواصفاتها للرئيس المقبل. فالإنتخابات الرئاسيّة دخلت في تجاذبات المنطقة، وكما أنّ المملكة وفرنسا والولايات المتحدة الأميركيّة تتمنّى إنتخاب رئيسٍ صديق لها، تقف إيران خلف "حزب الله" و"حركة أمل" في دعم فرنجيّة ليبقى لبنان مسانداً لـ"المقاومة" في المنطقة، وحليفاً لهذا المحوّر.