يوم توافقت المملكة العربية السعودية وايران على إعادة العلاقات الديبلوماسية بينهما إلى سابق عهدها، اعتقداللبنانيون، كما في كل مرّة، أن رياح التغيير، التي تلفح المنطقة، ستمرّ حكمًا في الأجواء اللبنانية، وسيكون لها تأثير إيجابي، في شكل أو آخر، على وضعية بلدهم الكارثية، وعلى حلحلة ممكنة لعقدة رئاسة الجمهورية، التي تبدو بالوقائع الحسّية أنها "عقدة المنشار"، والتي تؤخرّ الحلول الأخرى للأزمات المتوالدة والمستنسخة والتي تتراكم مع كل اشراقة شمس، لتضاف إلى سابقاتها من المشاكل المستعصية التي تنتظر فرجًا لن يأتي من الخارج الغارق بمشاكله وغير المهتمّ كثيرًا بما يجري على الساحة اللبنانية، وغير معني بأزماته.
وما يسمعه اللبنانيون من الموفدين الدوليين يؤكد نظرية "التلاشي"، وهي حال يعيشها لبنان منذ زمن بعيد، وهي التي أدّت إلى ما وصل إليه وضعه المهترئ والمتآكل. وهذا الوضع، الذي لا يشبه أي وضع آخر في عالم هو في عالم ما قبل الثالث، ميؤوس منه. هذا ما يحاول هؤلاء الموفدون الإيحاء به، سواء بالتلميح أحيانًا، أو بالكلام المباشرأحياناً أخرى. وهذا الأمر ينسف أي نظرية تفاؤلية مناقضة لما يلمسه كل لبناني لمس اليد في كل لحظة من لحظات يومياته الحبلى بالمفاجآت غير السارة وغير المطمئنة.
وفي رأي بعض المراقبين إن ما شهده لبنان في الساعات الماضية من جدل أقّل ما يُقال فيه إنه جدل مقيت ومميت،ويدّل على أن اللبنانيين لم يبلغوا بعد مرحلة النضوج السياسي، وأنهم لا يزالون قاصرين عن حكم أنفسهم بأنفسهم، وهم لا يزالون يحتاجون إلى أن يبقوا في أحضان الخارج، أو بالأحرى في "حضانات" هذا الخارج، الذي يكتفي حتى هذه اللحظة بتوصيف الوضع من دون أن يكون مستعدًّا لمدّ يده لإخراج لبنان من عمق أعماق الهوّة السحيقة القابع فيها وحيدًا.
فالجدل المميت، الذي شهدناه حول ساعة التوقيت، أعاد عقارب ساعات اللبنانيين إلى الوراء، وبالتحديد إلى يوم كانوا يتراشقون بالنار والحديد. وهذا الجدل، الذي لا يعني الكثيرين من اللبنانيين الساعين وراء لقمة عيشهم بمشقة، إن دلّ على شيء فعلى أن ثمة من لا يزال قادرًا على تحريك غرائز بعض اللبنانيين، الذين يجدون أنفسهم منساقين في موجات طائفية يتبيّن أنها متأصلة في النفوس، وأن النصوص لا يمكن أن تلغيها.
فمن راقب طريقة التخاطب بين اللبنانيين على وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال بعض التصريحات السياسية، اكتشف حقيقة مشاعر البعض، الذين يتخندقون تلقائيًا وطوعيًا في خنادق الطائفية والمذهبية، ويصبح الذين يحاولون نزع صواعق التفجير بمواقف عقلانية ومنطقية وهادئة وغير انفعالية منبوذين في بيئاتهم وبين أهلهم لمجرد أنهم لم ينجرفوا بالتيار الطائفي والمذهبي. وهو أخطر تيار قد تعرّض له لبنان طوال محنه السابقة.
فاللبنانيون، أو بعضهم، انقسموا إلى مجموعتين متقابلتين، واتخذوا من مواقع التواصل الاجتماعي "متاريس" بديلة من متاريس أكياس الرمل، وتراشقوا بكلام أخطر من القذائف العشوائية ورصاص القنص.
وحيال هذه الموجة الطائفية المؤلمة لا نكشف سرًّا إن قلنا، وهذا ما يؤيدنا به حكماء الطرفين، إن ما شهدناه في الساعات الأخيرة من انجراف أعمى وراء الغرائز الطائفية والمذهبية لا يعدو كونه مقدمة لما يخطّط له البعض من طروحات غير وحدوية وغير منسجمة مع الطبيعة التاريخية والجغرافية للبنان.
بعض المتفائلين والذين لا يزالون متمسكين بنظرية أن ما يجمع بين اللبنانيين أكثر بكثير مما يفرّق بينهم يراهنون على أن هذا الجدل حول ساعة التوقيت سرعان ما سيتلاشى لتحّل مكانه لغة العقل والمنطق، وأن ما لم تستطع حرب البارودة أن تفعله لن تستطيع الحرب الكلامية أن تحقّقه. فاللبنانيون محكمون بالتوافق، وإن اختلفوا حتى على التوقيت.