بفعل استمرار الأزمة المالية للسنة الرابعة على التوالي، وانسداد الأفق، تتهاوى أسعار العقارات إلى 60% وما دون في بعض المناطق. رغم ذلك، الشقق مكدّسة ولا تلقى من يشتريها. إذ أنّ قلّة قليلة من اللبنانيين باتت قادرة على التملّك، بعد أنّ كان شراء الشقق السكنيّة قبل العام 2019 متاحًا للغالبيّة العظمى من الشعب اللبناني، بفضل القروض المدعومة الممنوحة من المؤسسة العامة للإسكان، ومن مصرف الإسكان.
انخفاض الأسعار بين 30 و60%
عمليات البيع لم تتوقف، ولكن وتيرتها ضعيفة جدًا، وبيع الشقق يحصل بالعشرات وليس بالمئات سنويًّا، يقول الخبير العقاري رجا مكارم في حديث لـ "لبنان 24". الوضع الحالي للعقارات يمثّل فرصة للمقتدرين والمستثمرين لشراء شقق "بنص حقّا" وأقل، وتحقيق أرباح لاحقًا، فالشقّة التي كان سعرها 200 ألف دولار، يعرضها بعض المطوّرين اليوم بـ 80 ألف دولار، لاسيّما من يحتاج منهم للسيولة، رغم ذلك لم يشهد القطاع العقاري هجمة من حاملي الفريش دولار، لا سيّما المغتربين منهم، والطلب يشهد مزيدًا من التباطؤ. السبب يعود وفق مكارم إلى أنّ حاملي الفريش دولار يفتّشون عن سعر "لقطة"، بالمقابل لا يقبل المطوّرون العقاريون بخفض أسعارهم إلى هذا الحدّ "ومن يحتاج منهم إلى مبلغ بسيط من المال، لن يضحّي بعقار لقاء ذلك، بل يلجأ إلى بيع سيارة أو ذهب لتسيير أموره. فقط من يحتاج إلى مبلغ كبير من المال، يضطر إلى حرق السعر ليتمكّن من بيع العقار.هذا الكباش يحصل بين البائع والمشتري، إذ أنّ الفئة التي تريد أن تستثمر مالها في العقارات، مستفيدة من التراجع في الأسعار، تعتقد أنّ الأسعار ستشهد المزيد من الهبوط، بينما البائع يعتقد أنّ الأمور ستعود إلى سابق عهدها، وسيستعيد سوق العقارات موقعه، وتعود الأسعار لترتفع من جديد، مع أيّ انفراج سياسي يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية، لذلك يفضّل الإحتفاظ بعقاره لبيعه لاحقًا بسعر أعلى".
انتعاش السوق العقاري عامي 2020- 2021
سوق العقارات كان قد شهد حركة لافتة أواخر العام 2019 وطيلة العام 2020، وسجّل نموًا بلغت نسبته 8% عام 2021، بفعل لجوء عدد من المودعين إلى تهريب ودائعهم من اللولار إلى العقار، ساعد في ذلك وجود مطوّرين راغبين في بيع الشقق لتسديد ديونهم المصرفية المتراكمة، وكانت معظم عمليات البيع والشراء تتم عبر "الشبكات المصرفية"، التي كانت مقبولة لدى البائعين من أجل إيداعها في حساباتهم لتسديد ديونهم. وبعد أن سدّد المطوّرون ديونهم للمصارف توقفوا عن قبول الشيكات، وعاد سوق العقارات ليشهد جمودًا عام 2022 "أمّا أغلبية الشقق التي تمّ بيعها بعد ذلك، فهي التي تراجعت أسعارها بنسبة تراوحت بين 30 و 60%" يؤكّد مكارم، لافتًا إلى أنّ هذا الهامش الكبير في تراجع الأسعار، يعود لأسباب عدّة "منها الموقع الجغرافي للشقة، والمنطقة، والطلب على البناية. فهناك شقق تمّ بيعها في مناطق بانخفاض لم يتجاوز الـ 30%، بالمقابل هناك شقق عُرضت بانخفاض في سعرها وصل إلى 60% عن السعر الذي كانت عليه عام 2019، ورغم ذلك لم تلق من يشتريها، فانخفاض السعر وحده، لم يرفع من حركة السوق العقاري".
طلب شراء محال تجارية ومطاعم
جمود السوق العقاري طبيعي، بظل تراجع القدرة الشرائيّة لغالبية اللبنانيين، وحصر وسيلة الدفع بالنقدي، وتراجع الأسعار وحده لن يرفع الطلب وفق مكارم "للمواطنين أولويات وإنشغالات أكثر أهمية في الظروف المعيشيّة الراهنة، وما يدّخرونه لن ينفقوه على شراء عقار، بل يفضّلون الإحتفاظ بالسيولة لتسيير أمورهم الإستشفائيّة والتعليميّة وغيرها من المتطلبات، خصوصًا وأنّ هناك تقييدا لعمليات سحب أموالهم من المصارف". مكارم لفت إلى ارتفاع الطلب على المحال التجارية والمطاعم تحديدًا في الآونة الأخيرة، وقد تمّ افتتاح العديد من المطاعم، ولكن بطبيعة الحال روادها هم فئة من الشعب لا تتجاوز نسبتها الـ 5%، فيما البقية يعيشون ضائقة مادية.
هل ترتفع أسعار الشقق في حال تمّ انتخاب رئيس للجمهورية؟
يجيب مكارم أنّ أيّ تحسن في الوضع السياسي في البلد، أو أيّ معطى إيجابي قد يحصل، ينعكس إيجابًا على القطاع العقاري الذي يتأثر إلى حدّ كبير بالوضعين الأمني والإقتصادي للبلد "لكن هذا لا يعني أنّ القطاع العقاري سيستعيد عافيته غداة انتخاب رئيس للجمهورية، خصوصًا أذا تأخّر تأليف حكومة. لكن من دون شك أثبت القطاع العقاري أنّه أفضل من قطاعات أخرى، بدليل أنّ من هرّب وديعته من المصارف باتجاه العقارات عبر الدفع بالشيك المصرفي، تمكّن من استرجاع نصف وديعته على الأقل، في وقت يخسر باقي المودعين أموالهم بفعل الهيركات الذي يصل إلى 85% وأكثر بالسحوبات التي تتيحها التعاميم".
لا شك أنّ القطاع العقاري شكّل ملاذًا آمنًا للاستثمار وقد أثبتت الأزمة المالية ذلك، وكغيره من القطاعات عانى تبعات النكسة الإقتصادية، ومع توقف القروض المصرفيّة أضحى معظم الشباب عاجزًا عن التملك، وتوقفت عمليات بيع الشقق. هذا الواقع قد يبدأ بالتحسن مع انتخاب رئيس للبلاد وتأليف حكومة وانتظام عمل المؤسسات، لكن هذا لا يعني أنّ الأسعار ستعاود التحليق لتصل إلى مستويات ما قبل تشرين 2019، لأن الإقبال على الشراء يتطلب تحسّنًا كبيرًا في القدرة الشرائيّة وإعادة منح القروض المصرفيّة، وهي أمور لا تتعدّل بليلة وضحاها، بل تحتاج إلى مسار طويل من التعافي الإقتصادي.