Advertisement

لبنان

لماذا الصليب؟

Lebanon 24
06-04-2023 | 22:32
A-
A+
Doc-P-1054836-638164423823947090.jpg
Doc-P-1054836-638164423823947090.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
كتب المطران كيرلي بسترس في" النهار": نقرأ في إنجيل متى، بعد أن اعترف بطرس الرسول بيسوع بأنّه "المسيح ابن الله الحيّ": "منذئذٍ بدأ يسوع، المسيح، يُظهر لتلاميذه أنّه ينبغي له أن يمضيَ إلى أورشليم، وأن يعانيَ الآلامَ الكثيرةَ من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وأن يُقتَلَ ويقومَ في اليوم الثالث. فاجتذبه بطرس ناحيةً وطفق يزجره قائلاً: معاذَ الله، يا ربّ! لا، لن يكونَ لكَ هذا! أمّا هو فالتفت وقال لبطرس: اذهبْ ورائي، يا شيطان! إنّكَ لي مَعْثرةٌ لأنّكَ لا تنظر إلى ما لله بل إلى ما للناس" (متى 21:16-23). إنّ نظرةَ بطرس إلى المسيح هي نظرة اليهود الذين كانوا ينتظرون أن يأتيَ المسيح ملكًا زمنيًّا ليعيدَ مملكةَ داودَ إلى عظمتها ويُحرِّرَ الشعبَ من سيطرة الرومان. لكنّ يسوعَ لم يأتِ ليُنشئَ مملكةً زمنيّة، كما قال لبيلاطس: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يوحنا 36:18). بل جاء ليُنشئَ ملكوتَ الله. كلُّ الممالك تزول، أمّا ملكوت الله فمدعوٌّ إلى أن يدومَ "أبدَ الدهر ولن يكونَ له انقضاء" (راجع: لوقا 33:1). ذلك بأنّ هذا الملكوتَ لا يُبنى على التسلُّط والسيطرة، بل على المحبّة وبذل الذات. هذا ما قاله يسوع لتلاميذه الذين كانوا يتشاجرون في أيُّهم يُحسَب الأعظم لاحتلال المراكز الأولى في مملكته: "تعلمون أنَّ رؤساءَ الأمم يسودونهم، والعظماءَ يتسلّطون عليهم. وأمّا أنتم فلا يكنْ فيكم مثلُ هذا، بل مَنْ أراد أن يكونَ فيكم كبيرًا فليكنْ لكم خادمًا، ومَنْ أراد أن يكونَ الأوّل فيكم فليكنْ لكم عبدًا، كما أنّ ابنَ البشر لم يأتِ ليُخدَمَ بل ليَخدُمَ وليبذلَ نفسه فديةً عن كثيرين" (متى 25:20-28). لذلك "كان ينبغي للمسيح أن يكابدَ هذه الآلام ليدخلَ إلى مجده"، كما قال يسوع نفسه لتلميذَيْ عماوس (لوقا 26:24). هذا هو السبب الأوّل للصليب.
Advertisement
السبب الثاني هو أنّ هذا الملكوتَ مدعوٌّ إلى أن يجذبَ إليه الناسَ بحرّيّةٍ ويجعلَ منهم أبناءً لله أحرارًا. التسلُّط لا يجذب إلاّ العبيد، ولا يجمع إلاّ العبيد. المحبّة وحدَها تستطيع أن تجذبَ الأحرار. فبالصليب جذب يسوع الناسَ إليه، كما قال: "الحقّ أقول لكم إنّ حبّةَ الحنطة التي تقع في الأرض تبقى وحدَها إذا لم تمتْ. أمّا إذا ماتت فإنّها تأتي بثمرِ كثير". ثمّ يُضيف: "وأنا متى رُفِعتُ عن الأرض جذبتُ إليّ الجميع" (يوحنا 24:12، 32).

السبب الثالث هو أنّ يسوع جاء ليُظهِرَ للناس صورةَ الله في شخصه وفي حياته، بحيث إنّ "من يراه يرى الآب" (راجع: يوحنا 9:14). "الله محبة"، "وليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من أن يبذلَ نفسَه عن أحبّائه" (يوحنا 13:15). فعلى الصليب ظهرتْ صورةُ الله الحقيقيّة، وفي وجه يسوع المصلوب ظهر مجدُ الله. طبيعتنا محدودةٌ بالضعف والموت، ولذلك تطلب مجدَها الخاصّ وليس مجدَ الله، أمّا العلامة لمجد الله في بشريّة يسوع فكانت الصليب: "الآن تَمجَّد ابن الله وتَمجَّد الله فيه" (يوحنا13: 31-32)، هذا ما قاله يسوع عن ساعته، ساعة الصليب. الموت عن "الأنا" هو من جوهر الحبّ، لا "أنا" في الحبّ؛ والحقيقة أنّ البشريّةَ ليست حبًّا بجوهرها؛ الله وحدَه حبٌّ في جوهره.

السبب الرابع هو أنّ يسوع جاء ليفتديَ العالمَ من الخطيئة، ويمنحَ الناسَ حياةَ الله الأبديّة. فبإراقة دمه على الصليب افتدى العالم، وبقيامته من بين الأموات فتح للناس طريقَ الحياة. لكنّ هذا الفداءَ مُقدَّمٌ لحريّة الإنسان. فعلى الإنسان أن يختار: إمّا أن يبقى في الخطيئة ويشاركَ الذين قتلوا المسيح، والذين، على مدى الزمن، "يُعيدون، بأنفسهم، صلبَ ابن الله" (عبرانيّين 6:5)؛ وإمّا أن يقبلَ فداءَ المسيح، ويشاركَه في آلامه وصليبه. يقول بولس الرسول: "أُكمِّل في جسدي ما ينقص من آلام المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة" (كولسي 1: 24). فهل هذا يعني أنّ آلامَ المسيح كانت ناقصة؟ بل إنّ آلامَ المسيح كانت كاملةً على الصليب، فكيف نُكمِّل نحن هذه الآلام؟ لقد تجسّد المسيح، منذ أكثر من ألفي سنة، وحمل صليبَه وكانت آلامه لكلِّ البشريّة التي سوف تأتي أيضًا بعدَه. ولقد امتدّ سرُّه بواسطة الروح القدس إلى كلِّ مَنِ "اعتمد بالمسيح ولبس المسيح" (غلاطية 3: 27)، ليصيرَ كلُّ واحدٍ منّا مسيحَ الربّ. ما ينقص من آلام المسيح هو الصليب الذي أعيشه أنا لأجل كلّ الذين أنا معهم اليوم. صليب المسيح وآلامه تستمرُّ من خلالي وفـيَّ. لم يُعطنا الربُّ شعارًا نظريًّا نحمله ونسير به في وسط العالم، إنّما دخل في سرّ بشريّتنا ونقل سرَّه اللاهوتيَّ إلى بشريّتنا ليحملَ كلَّ واحدٍ منّا في لحمه ودمه وجسده سماتِ المسيح. وفي كلِّ زمانٍ ومكانٍ يكون هناك مَنْ يحمل سماتِ الصليب بالحبّ ويأخذ على عاتقه الآخَر ويَتَّحد به فيحيا بذلك كهنوتَ المسيح، أي شفاعةً وتضرُّعًا واتّحادًا، لينقل سرَّ صليب المسيح الذي لا يصل إلى الناس إلاّ من خلال شهوده، تلاميذه المسيحيّين.


هذا هو الصراع الذي لا يزال قائمًا داخلَ كلِّ إنسانٍ وداخلَ كلِّ المجتمعات. فعلى كلِّ إنسانٍ أن يختارَ بين أن يعيشَ في عبوديّة "الأنا"، أم أن يعيشَ في بذل الذات ومشاركة المسيح في فداء العالم. وعلى المجتمعات أن تختار بين أن تبقى أسيرةَ غريزة التسلّط، فيسودُ فيها القتل والدمار، كما يحدث اليوم في مختلف أنحاء العالم، أم أن تقبلَ فداءَ المسيح وتنتشرَ في شرائعها وسلوكها روحُ صليب المسيح، صليب المحبة والفداء.

أمام الصليب نرى فئتَيْن من الناس: نرى من جهةٍ اليهودَ الذين يهزؤون بيسوع قائلين: "خلّص غيرَه ولم يقدرْ أن يُخلِّصَ نفسَه! هو، ملك إسرائيل! فلينزل الآن عن الصليب فنؤمنَ به" (متى 42:27)، ومعهم جميعَ الذين على مدى التاريخ يرفضون صورةَ الله كما ظهرتْ في شخص #يسوع المسيح؛ ومن جهةٍ أُخرى نرى مريمَ العذراءَ ويوحنا التلميذَ الحبيب، اللذَيْن بقيا أمينَيْن ليسوع حتى الموت يشاركانه في آلامه ويقبلان فداءَه، ومعهما جميعَ تلاميذ المسيح الذين سيبقَون على مدى التاريخ يستقُون من صليب المسيح الفداءَ والمغفرة. على الإنسان أن يختارَ من أيِّ فئةٍ من الناس يريد أن يكون: إيمانُنا حريّة، إيمانُنا اختيار.
 
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك