في شهر شباط الماضي، حين كان النقاش في البلد في "ذروته" حول "تشريع الضرورة"، قطع رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل الشكّ باليقين، معلنًا أنّه "بالطبع" لن يشارك في الجلسة التشريعية التي كان يفترض أن تقرّ التمديد للمدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، بعد "حملة" شنّتها بعض قوى المعارضة عليه، التي تعتبر أنّ التشريع غير جائز قبل انتخاب رئيس للجمهورية.
لكنّ ما انطبق على الجلسة التشريعية المفترضة قبل أسابيع، لم يَسرِ على جلسة التمديد للمجالس البلدية والاختيارية، وبالتالي تأجيل الانتخابات التي كانت مقرّرة في شهر أيار المقبل، أي في غضون أيام فقط، إذ كان "التيار" في طليعة المشاركين فيها، بل الدافعين إلى عقدها، حيث أمّن لها الغطاء والميثاقية، تحت عنوان "تفادي الفراغ" الذي يمكن أن يحصل في البلديات، والذي إن وقع، سيشكّل "كارثة كبرى" لا يمكن تحمّلها.
وبين منع التئام الجلسة التشريعية الأولى وتأمين انعقاد الجلسة التشريعية الثانية، وجد "التيار الوطني الحر" نفسه مرّة أخرى في قفص الاتهام، حيث رأى البعض في مواقفه "تناقضًا نافرًا"، لا تتحكّم بها سوى "المصلحة المتغيّرة"، فيما دافع عنها البعض الآخر، من منطلق "الواقعية"، بعيدًا عن "الشعبوية"، فهل أخطأ باسيل بتغطية "جلسة التمديد"، أم أنّه فعل الصواب؟ وكيف يبرّر ما يعتبره كثيرون "تناقضًا" وقع فيه بالدليل الملموس؟!
"التيار" يبرّر
يعتبر المحسوبون على "التيار الوطني الحر" أنّ الحملة التي يشنّها البعض على خلفية مشاركته في "جلسة التمديد" مردودة على أصحابها، حيث يرون أنّ "التيار" قد يكون الوحيد الذي ينسجم مع نفسه، فهو حين قرّر مقاطعة الجلسة التشريعية الأولى قبل أسابيع، والمشاركة في الجلسة التشريعية الثانية اليوم، انطلق من المبدأ نفسه من دون تغيير، والقائم على أساس "الواقعية" التي تجعل "تشريع الضرورة" جوهريًا في ظلّ الشلل القائم في البلاد.
يقول المقرّبون من "التيار" إنّ باسيل ليس هو من وقع في التناقض، فهو لم يقل يومًا إنّه يرفض المشاركة في الجلسات التشريعية بالمُطلَق، لكنّه يرفض أن تصبح الجلسات التشريعية أمرًا عاديًا في ظلّ الفراغ، في حين أن من يزايدون عليه اليوم هم من وقعوا في "التناقض" مرارًا وتكرارًا، فبينهم من شارك في جلسات تشريعية في ظلّ الفراغ في السابق، وبينهم من "ضبط" هجومه، حتى يضمن عدم تراجع "التيار" عن المشاركة في الجلسة.
وفيما يميّز المحسوبون على "التيار" بين "تشريع الضرورة" الذي لطالما كانوا من مسانديه، وبين جلسات الحكومة التي يصرّون على مقاطعتها، بذريعة أنّها حكومة "مستقيلة"، يشدّدون على أنّ موقفهم هو "تحمّل للمسؤولية"، خلافًا لما فعله آخرون ممّن فضّلوا "المزايدات"، أو "حفلة الجنون" كما وصفها باسيل، على التصدّي للفراغ الذي يمكن أن يقضي على ما تبقى من مؤسسات، ويعمّم حالة "الفراغ" لتشمل شؤون المواطنين المباشرة.
تناقضات رغم كلّ شيء
لا تبدو هذه التبريرات "مقنعة" للكثيرين من خصوم "التيار"، أو الرافضين لتموضعه، حيث يتوقف بعضهم عند التناقض بين فحواها، وبين تصريحات لباسيل نفسه في شهر شباط الماضي، حين قال في حديث لصحيفة "الأخبار" ما حرفيته أنّ "ما ينطبق على انعقاد حكومة تصريف الأعمال لجهة عدم الانعقاد في ظل الفراغ الرئاسي، ينسحب أيضًا على مجلس النواب الذي يعتبر هيئة ناخبة "إلا في حالات الطوارئ والضرورة القصوى".
يقول العارفون إنّ باسيل بهذا الكلام "لم يميّز" بين مجلس النواب والحكومة، ولا بين "تشريع الضرورة" و"تصريف الأعمال"، كما يفعل اليوم، وهو اكتفى بالحديث عن "حالات الطوارئ والضرورة القصوى" في حالتي مجلس النواب والحكومة، وهو ما يوقعه في تناقض آخر، إلا إذا كان يعتبر أنّ "التمديد" للمجالس البلدية والاختيارية أكثر "ضرورة وإلحاحًا" من بنود الإصلاحات الاقتصادية، أو أمور تخصّ المواطنين مباشرة، كالكهرباء والأدوية والرواتب.
وفيما يسأل هؤلاء عن السبب الذي يجعل "التيار" يتمسّك بـ"جلسة التمديد" مهما كان الثمن، ويرفض ما يعتبرها "شعبوية"، ويتّهم الحكومة بـ"التقاعس"، في حين كان يمكنه أن ينتظر بضع ساعات فقط ليبني على جلسة مجلس الوزراء مقتضاها، ولا سيما أنّ تمويل الانتخابات كان على أجندتها، يستنتجون أنّ "التيار" لا ينطلق في مواقفه إلا من "مصلحته"، وقوامها أنّ الانتخابات البلدية اليوم تضرّه أكثر ممّا تفيده، وهنا بيت القصيد.
ضمن التبريرات التي يسوقها "التيار الوطني الحر" لموقفه، أنّ "تشريع الضرورة" غير مرفوض بالمطلق من جانبه، وأنّ الآخرين الذين ارتضوا به سابقًا، ويحوّلونه إلى "خطيئة" اليوم هم من يجب أن يُساءلوا على مواقفهم. لكن، أبعد من هذه التبريرات، كيف يفسّر اعتباره "تطيير الانتخابات البلدية" الأولوية القصوى، فيما تبقى ملفات أهمّ، ترتبط بملف الرئاسة وبالأزمة الاقتصادية القاتلة، "أسيرة" التجاذبات التي لا تنتهي؟!