منذ إعلان وزارة الخارجية الفرنسية أنّ "لا مرشح مفضّلاً" لباريس في الانتخابات الرئاسية في لبنان، وأنّ "على اللبنانيين اختيار قادتهم بأنفسهم"، تكثر التكهّنات في الداخل عن "دلالات" هذا الموقف، وربما "مفاعيله" على مستوى الاستحقاق، خصوصًا بعد "الدعاية الإعلامية" المكثّفة التي صوّرت رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، على أنّه "مرشح باريس" للرئاسة في لبنان، أكثر من كونه "مرشح حزب الله" مثلاً.
ومع أنّ الإعلان الفرنسي لم يوحِ بأيّ تعديل على خطّ "حراك" رئيس تيار "المردة"، الذي أطلق "ترشيحه" بصورة شبه رسمية الأسبوع الماضي، ويتوقع أن يعزّز "زخمه" هذا الأسبوع، عبر إطلالة تلفزيونية ولقاءات سياسية، فإنّ "تفاوتًا" سُجّل على مستوى قراءاته، بين من وضعه في خانة "الردّ على الحملات" ليس إلا، ومن اعتبره إيذانًا بإغلاق صفحة ترشيح فرنجية، الذي يبدو أنّ محاولات إيصاله إلى قصر بعبدا تصطدم باعتراضات داخلية وخارجية.
لكن، بين هذه القراءة وتلك، يبدو واضحًا أنّ الفرنسيين لم يتخلّوا، أقلّه حتى الآن، عن "وساطتهم" في الشأن اللبناني، في ظلّ استمرار توافد ممثلي الأحزاب والقوى السياسية إلى باريس، وسط حديث عن تحضيرات لاجتماع خماسي جديد قد يجمع فرنسا مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر، فكيف يفسّر كلّ ذلك؟ هل تخلت باريس فعلاً عن فرنجية، أم أنّ "التكتيك" هو الذي تغيّر كما يحلو للبعض القول، لا أكثر ولا أقلّ؟
موقف "بديهي"
بعيدًا عن الضجّة التي أثارها إعلان وزارة الخارجية الفرنسية عدم تفضيل باريس لأيّ مرشح رئاسي في لبنان، ودعوتها القادة في بيروت لاختيار قادتهم، وبالتالي تحمّل مسؤولياتهم وكسر الجمود السياسيين، فإنّ العارفين يشيرون إلى أنّ الموقف الرسمي لفرنسا "أكثر من بديهي"، بل إنّ المُستغرَب أن يصدر عن الفرنسيين خلاف هذا الموقف، الذي سيُعَدّ بطبيعة الحال "تدخّلاً في الشؤون الداخلية لدولة سيادية"، وهو ما من شأنه أن يدين باريس قبل غيرها.
يلفت هؤلاء إلى أنّ "التوضيح الفرنسي" جاء على وقع "حملة" تعرّضت لها فرنسا في الأيام الأخيرة من قبل الكثير من القوى السياسية في الداخل، التي انبرى بعضها لتوجيه الاتهامات لها، بل لسحب صفة "الأم الحنون" عنها، على خلفية تبنّيها لترشيح فرنجية، أسوة بثنائي "حزب الله" و"حركة أمل"، في ظلّ حديث عن "مصالح اقتصادية وتجارية" لباريس مع إيران تحديدًا، أملت عليها اتخاذ هذا الموقف، بمعزل عن "تأثيراته" على أصدقائها المفترضين.
من هنا، كان من الطبيعي وفقًا للعارفين، أن تسعى فرنسا لتصحيح "اللغط الحاصل"، عبر التأكيد أنّها لا تدعم أيّ مرشح ضدّ آخر، وأنّها تحترم ما يتفق عليه الأفرقاء اللبنانيين أنفسهم، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية انتخاب رئيس جديد في أسرع وقت ممكن، علمًا أنّ الفرنسيين يحرصون على لقاء ممثلي مختلف القوى، فهم التقوا إلى فرنجية، الكثير من المسؤولين، وآخرهم رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل، وعضو تكتل "لبنان القوي" النائب سيمون أبي رميا.
"الوساطة مستمرّة"
لا يعني بيان الخارجية الفرنسية الأخير أنّ باريس في صدد التخلّي عن "وساطتها" في لبنان، فهو صدر في وقت كانت باريس تواصل "استقبالاتها" لممثلي القوى السياسية، من دون أن تتأثر هذه "الحركة"، كما أنّ البيان نفسه لم ينكر فكرة "التسوية الشاملة" وفق صيغة "السلة المتكاملة"، وذلك تحديدًا حين ربط بين انتخاب الرئيس وتشكيل حكومة تكون كاملة الصلاحيات، وبالتالي قادرة على تنفيذ الإصلاحات التي يحتاجها لبنان في مواجهة أزماته المتفاقمة.
لكن، بعيدًا عن اللغة "الدبلوماسية" البديهية في الخطاب الفرنسي الرسمي، يقول العارفون إنّ رئيس تيار "المردة" لا يزال في "صدارة" التسوية التي تعمل عليها باريس، بالتعاون مع سائر شركائها في اللقاء الخماسي، باعتبار أنّ أيّ "سلة متكاملة" لا بدّ أن تنطلق من اسمه، وهو ما سمعه أصلاً المسؤولون الذين زاروا باريس، ومنهم رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل الذي أدلى بتصريحات واضحة في هذا الاتجاه، ولا تحتمل اللبس.
وفيما يلفت هؤلاء إلى وجود "تنسيق" فرنسي سعودي في هذا الإطار، يؤكدون أنّ باريس ليست "متمسّكة" بشخص فرنجية، لكن ثمّة قناعة أنّه لا يزال حتى الآن الاسم "الأكثر جدية" في البازار الرئاسي، علمًا أنّ المعترضين عليه لا يزالون عاجزين، حتى إشعار آخر، عن اقتراح أيّ "بديل"، بل إنّهم يرفضون الحوار فيما بينهم، من أجل الاتفاق على اسم واحد، ولو من باب "الانقضاض" على ترشيح فرنجية، ليس إلا.
ثمّة من يقول إنّ باريس "تنصّلت" من دعم فرنجية في بيانها "التوضيحي"، وثمّة من يشير إلى أنّها أرادت "تأكيد المؤكد"، إذ ليس من المنطقي أن يكون لها "مرشح" لرئاسة بلد آخر، وثمّة من يعتبر أنّ فرنجية لم يكن مرشحها أصلاً حتى تتخلّى عنه. في كلّ الأحوال، وبمعزل عن الوساطة الفرنسية "المشكورة"، فإنّ رسالة باريس تبقى "ثابتة" للبنانيين: الكرة في ملعبكم وحدكم دون أيّ شريك، "فساعدوا أنفسكم لنساعدكم"!