منذ فُتِح "بازار" الانتخابات الرئاسية في لبنان، تكثر التكهّنات حول "حقيقة" موقف المملكة العربية السعودية، التي بدت لفترة من الفترات كمن "ينأى بنفسه" عن الاستحقاق، لأسباب واعتبارات كثيرة، فيما يُجمِع اللبنانيون على وجوب "مباركتها" لأيّ تسوية يمكن التوصّل إليها، ودعمها لأيّ رئيس يتمّ الاتفاق على انتخابه، وهو ما أكّد عليه المرشح الأكثر جدّية حتى الآن، رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، في أكثر من مناسبة.
ومع بدء المعطيات "الرئاسية" في النضوج، ازدادت وتيرة "التكهّنات"، لدرجة أنّ الفريقين المتنازعين سعيا إلى "استمالتها" إلى جانبهما، حيث عمد المعارضون لفرنجية إلى الحديث عن "فيتو" ترفعه الرياض في وجهه، باعتباره "مرشح حزب الله" كما يحلو لهؤلاء وصفه، واستنادًا إلى المواصفات التي حدّدها السفير السعودي وليد البخاري مرارًا للرئيس العتيد، وقوامها ضرورة أن يكون "من خارج الاصطفافات"، وفق خصوم "البيك".
في المقابل، يصرّ مؤيدو فرنجية، وفي مقدّمتهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، على أنّ الموقف السعودي "أكثر مرونة" ممّا يعتقد البعض، وينفون وجود أيّ "فيتو" في وجه فرنجية، بل يتحدّثون عن "إيجابية" تجاهه رُصِدت في الآونة الأخيرة، فما حقيقة التموضع السعودي على مستوى استحقاق الانتخابات الرئاسية؟ وهل صحيح أنّ الرياض غيّرت موقفها رئاسيًا، ما قد يفتح الباب لـ"الخرق" المُنتظَر، في المدى القصير وغير البعيد؟!
الموقف السعودي "الثابت"
استنادًا إلى ما تقدّم، خطفت جولة السفير السعودي على القوى السياسية في الأيام الأخيرة الأضواء، في محاولة لـ"استكشاف" حقيقة التغيير الذي افترض البعض أنّه طرأ على الموقف السعودي، في ضوء المتغيّرات الكبرى التي خلقها الاتفاق السعودي الإيراني، الذي ينتظر لبنان "نصيبه" منه، بعدما وجد "صداه" في العديد من الساحات "الساخنة"، وخصوصًا بعد دخول باريس على خط "الترويج" لتسوية قوامها انتخاب فرنجية رئيسًا للجمهورية.
لكنّ العارفين لم يرصدوا "جديدًا نوعيًا" في الجولة، فالموقف السعودي لا يزال "ثابتًا" على المبادئ نفسها، وعلى رأسها "مبدأ" أنّ انتخاب الرئيس في لبنان هو "شأن داخلي"، وأنّ مسؤولية الإسراع بإنجاز هذه المهمّة، وملء الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية، تقع على عاتق المسؤولين اللبنانيين في الدرجة الأولى، وهو ما كرّره الرجل على مسامع معظم من التقاهم، وعلى رأسهم البطريرك الماروني بشارة الراعي ورئيس مجلس النواب نبيه بري.
مع ذلك، ثّمة من رصد "تغييرًا في اللهجة" يمكن البناء عليه، فإذا كان صحيحًا أن المؤيّدين لرئيس تيار "المردة" لطالما نفوا وجود أيّ "فيتو" على اسمه، فإنّهم شعروا هذه المرّة بأجواء "إيجابية" لم يعكسها الاجتماع مع رئيس المجلس، والذي وُصِف بـ"الودّي" فحسب، ولكن أيضًا تصريحات السفير السعودي التي بدت "أقلّ حدّة" من السابق، حيث رمى الكرة في ملعب اللبنانيين، من دون أيّ مواصفات قيل سابقًا إنّها تضع "البيك" خارج السباق.
"تطابق" بين الرياض وطهران
في السياق نفسه، ثمّة من رصد "مفارقة" أخرى في تصريحات السفير السعودي على هامش جولته على مختلف القوى السياسية، تكمن في "التطابق" بين الموقف الذي صدر عنه، والمواقف التي صدرت عن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لدى زيارته إلى بيروت، حيث "تقاطع" الرجلان الدبلوماسيان عند رفض الدخول في "بازار" الأسماء، رغم كلّ محاولات "حشرهما"، إن جاز التعبير، وهو ما يسجَّل لهما.
لكنّ خصوم فرنجية اعتبروا أنّ الأمر لا يصبّ في صالح رئيس تيار "المردة"، فوزير الخارجية الإيراني تجنّب دعمه علنًا، حفظًا ربما لخط الرجعة في حال "سقوطه"، كما أنّ السفير السعودي وإن لم يرفع "الفيتو" في وجهه، إلا أنّه لم يُبدِ أيّ نيّة في خوض "معركته"، عبر "الضغط" على "الأصدقاء" لتأمين نصاب جلسة تفضي لانتخابه بالحدّ الأدنى، ما يوحي بأنّ "التقاطع" بين الرياض وطهران قد يكون على "مرشح ثالث"، من خارج المنظومة.
بيد أنّ هذا "التطابق"، وإن وجد تفسيرات متباينة كالعادة في لبنان، قد يعني الكثير بالنسبة للمتابعين للشأن الرئاسي، ولا سيما أنّه قد يشكّل "خطوة أولى" في مسار "الخرق" الذي يراهن عليه الجميع، علمًا أنّ المتحمّسين لفرنجية يعتقدون أنّ أسهمه إلى ارتفاع، بل إنّ جولة البخاري عزّت "تفاؤلهم" بهذا المعنى، خصوصًا أنّ هناك من كان يلمّح إلى أنّ الرجل سيطلق "فيتو" واضحًا وصريحًا في وجه فرنجية، وهو ما لم يحصل بطبيعة الحال.
خرقت جولة السفير السعودي "رتابة" المشهد برأي كثيرين، على وقع حراك داخلي وخارجي يبدو حتى الآن "بلا بركة"، على وقع المبادرة "الاستكشافية" لنائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب التي لم تحقق "الخرق" بعد، بانتظار القمّة العربية، وما قد يسبقها أو يعقبها. لكن، وبعيدًا عن الرهانات، ثمّة من يدعو إلى "قراءة ما بين سطور" الرسالتين "المتطابقتين" سعوديًا وإيرانيًا، وجوهرهما: انتخاب الرئيس مسؤولية اللبنانيين أولاً وأخيرًا!