بـ"العرس الديمقراطيّ"، وُصِفت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها تركيا نهاية الأسبوع الماضي، مع تسجيلها سلسلة من "السوابق" في تاريخ البلاد، بدءًا من نسبة الاقتراع التي سجّلت مستويات "قياسية" تخطّت عتبة الـ90%، وصولاً إلى المنافسة الحامية بين معسكري الحكومة والمعارضة، والتي ترجمت بالذهاب إلى جولة انتخابية ثانية في غضون أسبوعين، للمرّة الأولى في تاريخ البلاد.
بالمفهوم الديمقراطي، بدا المشهد "مبشّرًا جدًا"، فالمعركة الانتخابية "الساخنة" جعلت الناس ينخرطون بكلّ حماس في العملية الانتخابية، مسجّلين بذلك مشاركة غير مسبوقة، وسط منافسة "على المنخار" بين الرئيس رجب طيب أردوغان، ومنافسه مرشح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو، رغم أنّ الأول الذي يرأس البلاد منذ عقدين، اعتاد على "حسم" الاستحقاق من الدورة الأولى في كلّ الولايات الماضية.
لكن، بقدر ما كان المشهد "ورديًا" في تركيا، وتجلت معه معاني "العرس" بكل ما للكلمة من معنى، كان "مستفزًا" للبنانيين، الذين صادف أنّهم كانوا يحتفلون بذكرى مرور عام على انتخاب برلمان "شبه مشلول"، وأكثر من نصف عام على أوان انتخابات رئاسية لم تحصل، ما طرح الكثير من الأسئلة عن "الديمقراطية اللبنانية"، فمتى تعود إلى موقعها، إن جاز التعبير؟ ولماذا لا يُستنسَخ السيناريو التركي محليًا؟
عام على انتخابات لبنان
جاءت الانتخابات التركية تزامنًا مع ذكرى مرور عام على الانتخابات النيابية في لبنان، لتزيد "الحسرة" برأي الكثيرين، فصحيح أنّ انتخابات لبنان شكّلت "إنجازًا" حين حصلت، رغم كلّ ظروف التشكيك التي أحاطت بها، ورغم "ضعف" الإقبال عليها مقارنة بما حصل في تركيا مثلاً، وصحيح أنّ نتائجها انطوت على "مفاجآت" مع دخول نَفَس جديد إلى البرلمان، تمثّل خصوصًا بمن اصطلح على تسميتهم بـ"نواب التغيير".
لكنّ الصحيح أيضًا، وفق ما يقول العارفون، أنّ "خيبة أمل" اللبنانيين من المجلس النيابي الذي انتخبوه تكاد "تفوق الخيال"، وهي "خيبة" تشمل بشكل خاص النواب الجُدُد، مستقلّين وتغييريّين، الذين لم يكن أداؤهم على قدر التطلعات، بل وقعوا في مكان ما، في "فخّ" الانقسامات اللبنانية، فتحوّلوا إلى مجرّد "شهود" على الصفقات والتسويات، من دون أن يكون لهم أيّ دور في المواجهة من الداخل، كما كانوا قد وعدوا.
ولعلّ ما يجري على مستوى الانتخابات الرئاسية هو الدليل الأسطع على الدرك الذي وصلت إليه البلاد، فالبرلمان معطّل، يعجز عن انتخاب رئيس، مراهنًا على كلمة سرّ إقليمية من هنا، أو توصية دولية من هناك، ومنتظرًا اجتماعات للدول الكبرى، مع تمنّيات بأن يوضع بند لبنان على "أجندتها"، والبرلمان في الآن نفسه "مشلول" نتيجة قناعة دستورية لدى شريحة من النواب، بأنّ التشريع "محظور" قبل انتخاب رئيس للجمهورية.
السيناريو التركي في لبنان
في كلّ الأحوال، يبدو الواقع اللبناني مُرًّا: الانتخابات النيابية التي حصلت قبل عام لم تُفضِ إلى "تغيير"، بل لعلّها "عقّدت" الأمور أكثر، مع تفاقم الأزمات الاجتماعية، وتدهور الواقع الاقتصادي، والانتخابات الرئاسية تصطدم بحائط مسدود، بسبب فشل مجلس النواب في القيام بالدور المناط به بموجب الدستور، بعدما تحوّلت جلسات الانتخاب التي عقدت، إلى "مسرحيات مملّة"، ومحدّدة النتائج سلفًا.
وإذا كان "استنساخ" السيناريو التركي في لبنان بعيد المنال، باعتبار أنّ عوامل عدّة تحول دون الوصول إلى "انتخابات مباشرة من الشعب"، فإنّ المشكلة الجوهرية تكمن في أنّ مجرد فكرة "المواجهة الانتخابية" غير واردة، ولا سيما بعدما درجت العادة على أن "يصدّق" البرلمان على الاتفاقات والتسويات التي تأتي خارجه، حيث لا يشهد التاريخ الحديث على منافسة فعليّة بين مرشحَين جديَين داخل البرلمان، باستثناء "يتيم".
ليس خافيًا على أحد أنّ ذلك يرتبط بشكل أو بآخر ببنية النظام في لبنان التي تعاني من "خلل" واضح، يتجلى في "جوهر" الانقسام الطائفي والمذهبي، ولكن أيضًا في "الارتهان" إلى الخارج، لكنّ ثمة من يأمل أن يشكّل الاستحقاق الرئاسي لهذا العام "استثناء"، مع ظهور بوادر "منافسة" بين مرشحَين، أحدهما مُعلَن، والآخر لم يُتفَق عليه نهائيًا بعد، لكنها بوادر قد لا تصل إلى "الخاتمة السعيدة"، مع تلويح الفريقين بسلاح "النصاب".
قد لا تكون المقارنة بين لبنان وتركيا، "مرضية" لكثيرين، ممن لطالما تغنّوا بـ"الديمقراطية" في لبنان، قبل أن تضاف إلى الأخيرة صفة "التوافقية"، ويتبيّن أنّها "وهمية" إلى حدّ بعيد. ثمّة من يعزو الأمر إلى أنّ للديمقراطية اللبنانية "خصوصيتها"، التي تتكامل مع "خصوصية" المجتمع، لكنّ الأكيد أنّ هذه "الخصوصية" لا تعفي أحدًا من المسؤولية التاريخية والأخلاقية الكبرى، ألا وهي حماية الديمقراطية، أو ما تبقّى منها!