على رغم معاناة أهل غزة مما يتعرّضون له يوميًا منذ شهر ونيف من قصف وحشي، وما يكابدونه من جوع وعطش، وما يفتقدون له من دواء وكهرباء، فإن الوضع الاقتصادي في هذا القطاع، الذي كان يترنح حتى قبل الحرب، هو اليوم في أسوأ ما يمكن أن يكون عليه أي اقتصاد متعثّر. فمقومات الحياة بحدودها الدنيا مفقودة. ولا مؤشرات تشي بوقف قريب للحرب لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. وحتى ولو توقفت رحاها بعد جهد جهيد فإن لا قيامة ممكنة لقطاع فيه أكبر كثافة سكانية في العالم بعد هذا الدمار الهائل، التي طال بناه التحتية ومدارسه ومستشفياته وبيوته السكنية.
إلاّ أن تداعيات هذه الحرب الضروس لا تقتصر على قطاع غزة فحسب، بل تمتد سلبياتها الاقتصادية إلى دول الجوار، وبالأخص لبنان، الذي يعاني اقتصاده أساسًا وقبل أن تندلع الحرب في غزة، وهو المعني بها من خلال المناوشات العسكرية الدائرة بوتيرة متصاعدة على حدوده الجنوبية بين "حزب الله" والعدو الإسرائيلي وعدد من الفصائل الفلسطينية، التي تتخذ من بعض المناطق الجنوبية الآهلة منطلقًا لصواريخها في اتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلًا عن انعكاس هذه السلبيات على كل من مصر والأردن بحسب أحدث التقارير الصادرة عن وكالة "ستاندرد آند بورز غلوبال للتصنيفات الائتمانية". ويرجح أن يكون الضرر الأكبر لهذه الحرب خارج مناطق النزاع، وبالتحديد على قطاع السياحة في هذه الدول الثلاث، التي يعتمد اقتصادها في شكل أساسي على القطاع السياحي.
وتقدّر هذه الوكالة أن تبلغ هذه الخسائر ما بين 10 في المئة إلى 70 في المئة من إجمالي عائدات السياحة المسجلة العام الماضي، وذلك وفق تفاقم الصراع واتساع رقعته وامتداد فترته الزمنية. وعرضت الوكالة 3 سيناريوهات أكثرها حدّةً يُقدِّر بلوغ الخسائر الإجمالية للإيرادات السياحية في الدول الثلاث 16.1 مليار دولار. وذكرت أن هذه البلدان المجاورة مباشرة لإسرائيل وغزة هي أكثر عرضة لتباطؤ السياحة التي تساهم بنسبة 12 إلى 26 في المئة من إيرادات الحساب الجاري، مما يحقق دخلاً من العملات الأجنبية فضلاً عن خلق فرص للعمل. وقد ارتفعت إيرادات السياحة خلال النصف الأول من عام 2023 بأكثر من 50 في المئة في الأردن، و30 في المئة في مصر. أمّا في لبنان فارتفع عدد السياح بنسبة 33 في المئة في الفترة من كانون الثاني إلى آب من العام الجاري. كما يوفر القطاع السياحي فرص عمل لنحو 20 في المئة من اللبنانيين، خاصة في خلال لموسم السياحي بشقيه الصيفي والشتوي.
فلبنان الذي يعاني اقتصاده ما لم يعانه بلد آخر كان قد شهد خلال فصل الصيف موسمًا سياحيًا لم يسبق أن شهد مثيلًا له في السنوات الماضية. وكان يعّول على موسم شتوي واعد. إلاّ أن اندلاع الحرب في غزة ودخول لبنان، ولو جزئيًا، بهذه الحرب، قد قضى على ما كان يعّول عليه اللبنانيون للتعويض قليلًا عمّا لحقهم من خسائر على مختلف المستويات، وبالأخص على المستوى المالي بعدما أصبحت القيمة الشرائية لعملتهم الوطنية متدنية كثيرًا.
فلبنان الذي يعتمد على قطاع السياحة، التي تراجعت إلى حدود الصفر بسبب الخوف من امتداد الحرب إلى ربوعه، مما يؤثّر على التراجع في النمو الاقتصادي والأرصدة الخارجية بسبب انخفاض عدد السياح. وفي حال انخفضت عائدات السياحة بنسبة 10 إلى 30 في المئة، فإن الخسارة المباشرة في الناتج الاقتصادي يمكن أن تصل إلى 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا يمثل ضربة كبيرة للاقتصاد الذي يعاني من أزمة خانقة وفراغ سياسي، يجعلانه غير قادر على تحمل التخلي عن تدفقات العملات الأجنبية المهمة من السياحة.
فإذا امتدّت نيران حرب غزة إلى لبنان فإن مقومات الصمود المدني تقارب حدود الصفر لأسباب كثيرة، وأهمّها أن الحكومة التي تسعى بكل ما لديها من إمكانات، ولو محدودة ومتواضعة، تواجه أزمة تمويل أي خطة طوارئ ممكنة للحدّ من أضرار أي عدوان متوقع، حتى أن بعض المتشائمين يذهبون إلى حدّ القول بأن لبنان غير قادر على الصمود مدنيًا لفترة طويلة على عكس ما كان عليه الوضع في صيف 2006.