مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثالث، واحتدام المعارك، بدأت تتكشف بشكل أوضح معوقات الحرب إسرائيلياً، رغم محاولات القيادات السياسية والأمنية، بمساعدة الجيش وآلته الإعلامية، ومساندة قسم كبير من المحللين في القنوات الإسرائيلية، تسويق ادعاءات تحقيق إنجازات عسكرية ميدانية، وبوادر لانكسار حركة حماس.
المعضلات التي تواجه متخذي القرار حالياً عديدة من أبرزها، شح الإنجازات الاستراتيجية على أرض المعركة، وتزايد الخسائر البشرية للجيش الإسرائيلي، على الرغم من الدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية والحياة في قطاع غزة، وتزايد الخلافات بين متخذي القرار السياسي في إسرائيل، وتعميق الأزمة الاقتصادية، وبدء سير عقارب الساعة السياسية والدبلوماسية عكس رغبات إسرائيل، وفشل محاولات الردع الإسرائيلية في الجبهة الشمالية أمام "حزب الله".
المعيقات العسكرية
في بداية الشهر الثالث للحرب على غزة، ناهز العدد الرسمي لقتلى الجيش الإسرائيلي منذ بداية المعركة البرية قرابة 110 قتلى، وآلاف الجرحى، منهم ألفا معوق، وفقاً لتقارير غير رسمية.
المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تبذل جهداً خاصاً في محاولة لترويج رواية تحقيق إنجازات على أرض المعركة، وتدعي أن قدرات حركة حماس آخذة بالتراجع، بل إن وزير الأمن يوآف غالانت صرح بأن هناك مؤشرات أولية تشير إلى بداية انكسار حماس.
وفي محاولة البحث عن صور انتصار، ولو مفبركة ومصطنعة، روج الإعلام الإسرائيلي بقوة لصور مجموعات من المدنيين في غزة وهم شبه عراة، وادعوا أنها مشاهد استسلام جماعية لمقاتلي حماس، وتفاخر بهذا الإنجاز. لكن سرعان ما تراجع الجيش عن هذا الادعاء، موضحاً أن غالبية هؤلاء لا علاقة لهم بحماس، وأنهم مواطنون كانوا موجودين في مراكز إيواء.
هذا الهوس وراء صور انتصار أو إنجازات يشي بوجود بدايات إحباط في الإعلام والمجتمع، قد تتحول إلى حالة ضغط على صناع القرار في إسرائيل. كذلك، فإن عدم تحقيق إنجازات عسكرية استراتيجية على أرض الواقع دفع عدداً من المحللين العسكريين للبدء بطرح أسئلة صعبة حاول الجيش والحكومة والمجتمع تجاهلها حتى الآن، أهمها إمكانية هزيمة حماس، وتحقيق أهداف الحرب المعلنة، والمدى الزمني للحرب.
وشكك محللون إسرائيليون في إمكانية أن تحقق إسرائيل أهدافها في الحرب التي تشنّها على غزة، ورأى قسم من المحللين أن حركة حماس ما زالت بعيدة عن الكسر، ولا إمكانية حالياً لاستسلامها. مع هذا، فقد بات عدد من المحللين يحذر من أنّ الحرب التي تشنها إسرائيل على القطاع تتجه إلى الفشل، مشيرين إلى نقص الحلول السياسية، ومعتبرين أنّ الأهداف تبدو بعيدة التحقيق.
وألمح البعض إلى أن المؤسسة العسكرية والسياسية لا تقول كل الحقيقة. في الأيام الأخيرة نشر الإعلام الإسرائيلي تقديرات للجيش يتوقع فيها أن عام 2024 سيكون "عام قتال"، حيث سيواصل عملياته العسكرية في إطار حربه على غزة، والاستنفار العسكري، والانتشار الواسع على الجبهة الشمالية، وسط توقعات بأن جميع الكتائب التابعة لقوات الاحتياط ستكون مطالبة بمواصلة الخدمة العسكرية خلال العام المقبل. هذه التقديرات مهمة جداً، وتبدد أوهام إسرائيل بتحقيق إنجازات حقيقية في المدى القريب في ميدان المعركة.
وتشي هذه التقديرات بأن حالة تجنيد قوات الاحتياط ستستمر خلال العام المقبل، مع استمرار الخسائر البشرية، وعدم إنهاء قضية الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين لدى حماس.
ويعني أيضاً أن قسماً كبيراً من سكان المستوطنات المحاذية لقطاع غزة والحدود مع لبنان سيبقون خارجها، وأن لا انفراج قريباً للأزمة الاقتصادية، ما يعني مزيداً من التصدعات السياسية داخل الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً داخل مجلس إدارة الحرب، وإمكانية حقيقية لصدام بين أهداف الحكومة الإسرائيلية وأهداف الإدارة الأميركية.
تصدعات سياسية في ظل إدارة الحرب
حالياً، هناك تصدعات ليست بسيطة بين صناع القرار في إسرائيل، خصوصاً بين رئيس الحكومة ووزير الأمن والمؤسسة العسكرية، وهي استمرار لحالة عدم الثقة بينهم منذ الاحتجاجات على الخطة الحكومية لتقييد القضاء، واستمرار محاولة نتنياهو لصق تهمة الإخفاق الكبير في 7 تشرين الأول الماضي بالمؤسسة العسكرية.
نتنياهو وغالانت لا يخفيان التوتر القائم بينهما وندرة اللقاءات الثنائية، على الرغم من عدم وجود خلاف جدي علني حول أهداف الحرب وطريقة إدارتها. كذلك، من الواضح أن مصدر الخلافات سياسي، وأبعادها وأهدافها سياسية بالأساس.
العائق الاقتصادي
الحالة الاقتصادية في إسرائيل تتجه نحو مزيد من التأزم، وهذا سيشكل ضغطاً جدياً على صانع القرار، وعلى المجتمع الإسرائيلي، إذ إن هناك حاجة لمزيد من الميزانيات للجيش، وإيواء السكان الذين تركوا منازلهم وبلداتهم في الجنوب والشمال.
ووفقاً للتقديرات، فإن الدخل والناتج المحلي سيتراجعان في عام 2024، وستتراجع جباية الضرائب، وسيكون هناك حاجة لتعديل الميزانية الحكومية، ورفع العجز، وربما رفع الضرائب.
وحالياً، فإنّ وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، مستمر في توزيع الميزانيات الخاصة للشركاء في التحالف الحكومي، لقطاعات لا تساهم في النمو الاقتصادي، ولا في المجهود الحربي، غير مكترث بالانتقادات ولا الأصوات القائلة إن إدارة الحكومة للمالية ستؤدي إلى نتائج وخيمة.
ولغاية الآن لم تشكل الحالة الاقتصادية العامة في الدولة، ولا التراجع الاقتصادي في حالة الأفراد والأسر، أي امتعاض أو احتجاج. وعملياً، فإن المجتمع الإسرائيلي يضع في سلم أولوياته الحاجة للحسم العسكري، ويتجند الجميع في المجهود الحربي، لكن هذا لا يعني أن الحالة ستبقى هكذا، خصوصاً لدى قطاع الأعمال والعائلات التي تراجع دخلها.
وإذا استمرت الحرب لمدة أطول، أو استمر نهج وزير المالية على ما هو، فإن المحور الاقتصادي سيكون عامل ضغط وعائقاً جدياً أمام صناع القرار.
الخشية من توسع جبهة الشمال
من العوامل التي باتت ملحة في الأيام الأخيرة على صناع القرار الأمني والعسكري في إسرائيل هي حالة الجبهة الشمالية أمام "حزب الله"، بحيث تزداد حدة ووتيرة التهديدات الإسرائيلية للحزب ولبنان.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن رسائل التهديد بين إسرائيل و"حزب الله" لم تبدأ بعد الحرب على غزة فقط، وإنما بدأت، ولو بوتيرة وحِدة منخفضة، قبل ذلك بعدة أشهر. وهنا، فقدد هدد وزير الأمن، بداية العام الحالي، الحزب بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، ورد "حزب الله" باللغة نفسها.
وبات واضحاً أن سؤال الحالة على الحدود الشمالية تخطى إسرائيلياً مسألة الحرب على غزة، بحيث تصرح إسرائيل بأن الموضوع يتعلق الآن بسؤال وجود قوات "حزب الله" على الحدود الشمالية دون علاقة بالحرب على غزة. سكان الشمال أوضحوا أنه لا يمكن استمرار الوضع القائم، وأنهم لن يعودوا إلى بلداتهم ما دام هناك وجود لقوات "حزب الله"، خوفاً من نسخة جديدة لعملية "طوفان الأقصى"، تكون أصعب وأشد، ناهيك أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية القائمة على مبدأ الردع لم تعد تعمل أمام "حزب الله" بالشكل المطلوب إسرائيلياً.
إسرائيل أمام معضلة كيفية التعامل مع هذا الواقع بين محدودية قدراتها، والحاجة إلى ترميم قدرة الردع، بينما تنهمك في الحرب على غزة، وتواجه رفضاً أميركياً لفتح جبهة الشمال. كذلك، تحاول إسرائيل إيجاد حلول عبر الدبلوماسية والتهديد لإبعاد قوات "حزب الله" عن الحدود وصولاً إلى نهر الليطاني شمالاً، وهي تعرف أنه لا احتمال لنجاح ذلك.
إمكانية توسع وتعميق جبهة الشمال يشكل عائقاً آخر أمام استمرار الحرب على غزة، لأن أي توسع للجبهة الشمالية سيجبر إسرائيل على نقل قوات من جبهة الجنوب إلى الشمال، كونها ترتكز حتى الآن بالأساس على قوات احتياط لا تستطيع مواجهة قوات "حزب الله" وحدها، وطبعاً توجيه القدرات الجوية باتجاه الشمال.
مع استمرار المعارك البرية، وارتفاع الأثمان البشرية في الجيش الإسرائيلي، تتكشف المعوقات أمام استمرار الحرب بصورتها الحالية. إسرائيل تصرفت حتى الآن كما أنها القوة الوحيدة الفاعلة في المنطقة، وأن لديها الأدوات الضرورية لاستمرار الحرب وحسمها دون رادع.
مجريات الأمور تشي بواقع مختلف. إسرائيل تكتشف صعوبة تحقيق الأهداف العسكرية وأثمانها، الاقتصادية والدبلوماسية، وتآكل صورتها عالمياً. بالتوازي تخشى إسرائيل من توسع الحرب شمالاً ومن أثمانها الأكبر. عندما تتكشف محدودية القوة والقدرات الإسرائيلية، سيبدأ معها تآكل الإجماع الإسرائيلي والدعم المطلق لحرب الانتقام، وتتوسع التصدعات. هذا قد يؤدي إلى تقصير أمد الحرب دون حسمها. (العربي الجديد)