قبل عملية "طوفان الأقصى"، وقبل الحرب التدميرية التي تشنّها إسرائيل على غزة، كان لبنان يعيش أزمات متتالية ومتوالية، منها ما هو مالي – اقتصادي، ومنها ما هو اجتماعي نتيجة عوامل مؤثّرة كثيرة، ومنها ما هو أمني بفعل الوجود الغريب على أراضيه، سواء أكان من التابعية الفلسطينية داخل المخيمات أو خارجها، أو كان من التابعية السورية والمعروف تحت خانة "النزوح السوري"، وما في هذا الملف من تعقيدات وقطب مخفية، مع ما يشكّله من عبء ثقيل على اللبنانيين، بعدما بلغ عدد النازحين السوريين ما يوازي ثلث سكان لبنان، أي بمعنى مبسّط آخر، أنه من بين ثلاثة لبنانيين يوجد نازح سوري، وهم موزعون في معظم البلدات والقرى اللبنانية على امتداد ساحة الوطن.
إن هذا النزوح بهذا الشكل الكثيف والمخيف هو "خطر وجودي على لبنان". هذا ما خلص إليه قائد الجيش العماد جوزاف عون، الذي كان يتحدّث في جلسة حضرها عدد من الوزراء برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي الذي شارك في جنيف في اعمال المؤتمر الخاص بملف النازحين السوريين في لبنان، بدعوة من الامم المتحدة، وألقى كلمة فيه هي في غاية الأهمية، حيث قال "يختلف اللبنانيون على الكثير من الملفات ولكنهم متحدون صوتا واحدا على مطالبة المجتمع الدولي بحل قضية النازحين وعدم الضغط على لبنان لابقائهم على أرضه." وأشار إلى أن التقرير السنوي الذي اعده البنك الدولي وسينشر في غضون ايام أظهر ان كلفة النزوح السوري على لبنان منذ بداية الحرب السورية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. فهل من المقبول أن يبقى العالم متفرجا على وطن ينوء تحت اعباء فرضت عليه فرضا ولا قدرة له على تحمّلها. فاللبنانيون يرفضون أن يبقى هذا الجرح نازفا في خاصرتهم ومن حقهم أن يتخذوا الاجراءات التي يرونها مناسبة لحماية وطنهم وأنفسهم، وهذه الخطوات تبدأ بعودة النازحين السوريين الى بلادهم وتوقف المنظمات الدولية عن اغرائهم للبقاء في وطننا. فليتوجه الاهتمام الدولي بالنازحين نحو اعادتهم الى المناطق المستقرة في سوريا، ولتقدم لهم المساعدات في وطنهم.
وبالتوازي فالمطلوب العمل على وضع خطة شاملة تعالج الأسباب الجذرية للأزمة السورية وتضمن العودة الآمنة والطوعية للاجئين إلى وطنهم. ويجب أن تعطي هذه الخطة أيضًا الأولوية لدعم وإعادة إدماج اللاجئين السوريين في سوريا.
لم يعد باستطاعة لبنان أن يتحمل هذا العبء بمفرده، وعلى الجميع تحمّل مسؤوليتهم في هذا الملف ، وهم في الاصل شركاء في المسؤولية عن وصوله الى هذا الوضع الذي نرزح تحته. وكل الكلام عن الاعتبارات الانسانية وحقوق الانسان للتهرب من المسؤولية والقائها على عاتق اللبنانيين حصرا بات ممجوجا. والسؤال الذي من حقنا المجاهرة له، هل تعيبون علينا اننا نطالب بعودة شعب الى ارضه ليعيش بكرامته، فيما يتم التغاضي عن جريمة موصوفة تهدف الى اقتلاع شعب من ارضه وقتله وتهجيره؟ أين المعايير الانسانية المتوازنة في تعاطي المجتمع الدولي مع القضيتين؟
وختم: "لن نبقى مكتوفي الايدي ونتلقى الازمات المتتالية وأن يعتبرنا البعض مشاريع اوطان بديلة، بل سننقذ وطننا وسنحصّن انفسنا لأننا أصحاب الحق اولا واخيرا في العيش بوطننا بعزة وكرامة".
وقد تزامن انعقاد هذا المنتدى مع تسّلم وزارة الخارجية من المفوضية العليا لشؤون النازحين "داتا" النازحين. ومن شأن هذه "الداتا" تصويب الأمور التي كانت غامضة حتى الأمس القريب، وتسهيل عملية تنظيم هذا الوجود، الذي يتراوح بين من هم نازحون وبين الذين يعملون ولا يملكون أوراقًا رسمية، وبين الذين يملكون اجازات عمل ويعملون وفق ما تفرضه القوانين اللبنانية، وذلك تمهيدًا للمرحلة التي ستتمّ فيها عملية الإعادة الآمنة لأعداد كبيرة إلى بعض المناطق، التي تشهد هدوءًا أمنيًا أكيدًا.
لقد سبق للأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله أن اقترح، في إحدى طلاّته، أن يُصار إلى فتح البحر امام النازحين السوريين في اتجاه الدول الأوروبية، التي ستجد نفسها مضطّرة إلى التفاوض مع لبنان في ما يخصّ تنظيم "العودة الآمنة" لأعداد كبيرة من هؤلاء النازحين، الذين لم يعد لهم أي مبرر للبقاء حيث هم.
ولكن هذه "الصرخة" لم تلقَ أي صدىً، لأن هذه القضية تتخطّى الإطار المحلي البحت، إذ إن لبنان المغلوب على أمره لا يستطيع أن يفعل أكثر مما فعله في السابق، وهو يحاول بشتى الطرق الممكنة تقليل أضرار هذا النزوح ريثما تنضج الحلول "الكبيرة".
فالأمور معقّدة ومتداخل فيها ما هو سياسي بما هو أمني، خصوصًا أن ارتباط هذا النزوح، وبالأخصّ الحديث منه، بما يُرسم للبنان من مخطّطات يطرح أكثر من علامة استفهام، مع ما يرافق كل ذلك من إصرار أوروبي على إبقاء النازحين السوريين حيث هم في لبنان، على رغم علم هذه الدول ما يشكّله هذا النزوح من مخاطر آنية ومستقبلية على مختلف الصعد، وبالأخص اقتصاديًا واجتماعيًا وديموغرافيًا وأمنيًا.
ومع كل هذه المشاكل يبقى الهمّ الأمني في طليعة ما يقلق المؤتمنين على أمن المواطن، فيما ينحصر همّ البعض في ما يمكن أن يكون عليه وضعه الحالي المرتبط ببعض الاستحقاقات الدائمة، والتي قد يكون لها انعكاسات سلبية على مستقبله السياسي، ومن بينها تأجيل تسريح العماد عون.