قد يكون التحرّك المتنامي داخلياً على المستويين الرسمي والسياسي في التعامل مع أعباء النازحين السوريين محطة تحوّل في الموقف اللبناني الداخلي، يتطلب تعاطياً أكثر واقعية وبعيداً عن الشعبوية والحسابات الخاصة التي حكمت هذا الملف منذ نشوئه، بعدما بات حجم الوجود السوري خطراً وجودياً لا يمكن التساهل معه أو إنكار مخاطره.
وفي هذا الاطار، كتبت سابين عويس في"النهار": يقدّم مستشار رئيس الحكومة سمير الضاهر مقاربة جديدة أكثر واقعية تطرح الحلول الآيلة إلى عودة النازحين إلى بلادهم وحماية الهوية اللبنانية المهدّدة بالانقراض. ففي دراسة قدّمها إلى ميقاتي لضمّها إلى المستندات التي يحملها الوفد اللبناني إلى بروكسيل، والى الجلسة النيابية أمس المخصّصة لبحث هذا الموضوع، ينطلق الضاهر من مقارنة عملية لنسبة النازحين في العالم تبيّن أن الحالة اللبنانية لا تنطبق عليها المبادئ والحلول المعتمدة دولياً إذ يشكل المهاجرون في العالم وفق تقديرات البنك الدولي ٢٨٠ مليون مهاجر بينهم ٤٠ مليوناً نزحوا قسراً ويمثلون نصفاً في المئة من إجمالي سكان العالم فيما هذا المبدأ لا يسري في لبنان حيث تَعَدَّت نسبةُ النازحين إلى المواطنين المقيمين الـ٥٠ في المئة، ما يعني أنّه خلال جيلٍ من الزمن، ونظراً للهجرة المطّرِدة للشباب اللبناني، سيتحوّل "التفاعل المثمر بين الحضارات" والمفيد لبلدَي المنشأ والمهجَر، من اندماجٍ للنازحين في المجتمع المضيف إلى انصهارٍ للأقليّة اللبنانية في بحر المقيمين السوريين العارم حيث معدَّل الولادات يتعدّى معدّلَ ولادات اللبنانيين بهامشٍ لا يَقّل عن ٢٠ في المئة وفي ذلك خطر تذويب للهوية الوطنية لا يمكن التغاضي عنه ولا القبول به، بل من الواجب العمل على تداركه. وعلى السلطات اللبنانية إعادة تقييم سياسة اللامبالاة غير المُجدية التي اتُّبِعَتْ للحين في إدارة ملف الهجرة، وهي في الواقع سياسة يواكبها ويُموّلها المجتمع الدولي خدمةً لمصالحِه القومية وأهدافِه السياسية، وتبعاً لقوانينه ومعاييرِه ومبادئه مهما كانت سامية. والمهم في ذلك هو أن يتحوّل نهجُ لبنان في ملف النازحين من هدفٍ يرمي إلى زيادة المساعدات الخارجيَّة التي يصل فُتاتٌ منها إلى اللبنانيين، إلى سياسة يكون هدفُها الأوّل العودة النهائية للنازحين إلى ديارهم، بموازاة العمل لإعادة توطين بعضهم في بلدان لجوء أُخرى.
يصف الضاهر عبء النزوح بأن لا مثيل له وعواقبه خطيرة على الأمن القومي والسلامة العامة، كما له آثار يجب إحصاؤها وتقييمها في شكل دقيق على اقتصاد ركيزته الخدمات، ما يجعله عرضة لأي خلل بالاستقرار السياسي والامني والاجتماعي. وتُفيد أرقام المديرية العامة للأمن العام عن وجود 2,8 مليون مواطن سوري في لبنان، أي ما يزيد عن نصف عدد المواطنين المقيمين الذي تدَنّى حالياً إلى ما دون الأربعة ملايين. ومنذ بدء النزوح، تم تسجيل ولادات قاربت 190 ألفاً سنوياً، فيما العدد السنوي للولادات السورية 40 ألفاً مقابل 65 ألفاً للبنانيين. ويُضاف إلى فئة المقيمين الأجانب 270 ألف فلسطيني، و250 ألفاً من رعايا دولٍ عربية وأفريقية وآسيوية، أي ما مجموعه ٦،٥ ملايين نسمة. لتصل الكثافة السكانية إلى ٦٢٠ شخصًا/كلم٢، وهي من أعلى نسب العالم (باستثناء "الدول-المدن" مثل موناكو، وسنغافورة،وهونغ كونغ). وحتى لو أخذنا في الاعتبار اللبنانيين المقيمين فقط، لَقارَبَت الكثافة السكانية ٤٠٠ شخص/كلم٢.
في الوضع القانوني للسوريين، ورغم أن الحكومة القَلِقة من التدفّق المتواصل، أبلغت مفوضية اللاجئين بوقف عملية "التسجيل"، فهي تجاهلت الطلب وتابعت قبول الوافدين تحت توصيف "مدوّنِين"، ليُعْطَوا "بطاقة تسجيل" ورمزاً مشفّراً يسمح بالتعرُّف إليهم ويُخوِّلهم تلقّي المساعدات. وبينما تَتَلَقّى كلتا المجموعتَيْن مساعدات مالية، لا تشمُل الحماية القانونية، تبعاً للنظام الدولي، سوى المسجَّلين.
وفي تقييم واقعي لعودة سريعة للنازحين إلى سوريا، يرى الضاهر أن قدرة سوريا الاستيعابية لعودة سريعة للنازحين مُقَيَّدة ومحدودة للغاية، مشيراً الى ضرورة إعادة النظر في السياسات المتعلقة بملف النازحين واستعادة زمام إدارتها. ويعتبر أن المجتمع الدولي، الذي لا يَعْتَبر أنَّ الظروف نضجت لعودتهم إلى سوريا، وينظر إلى دول الجوارعلى أنَّها الجدار المنيع لوقف تدفُّق الذين يبحثون عن ملاذٍ آمِن في بلاد الغرب، وتمشياً مع مبدأ "الانخراط"، يسعى إلى دمج النازحين في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والحضَري في لبنان، ليصبحوا جزءاً لا يتجزّأ من القوى العاملة المحلية. ومن هنا ضغط الجهات المانحة لتمويل برامج من صلبها خلق فرص عمل للنازحين، غيرَآبِهةٍ بالآثار السلبية المترتبة عن اندماج هذا العدد الهائل من النازحين. ومن غير الممكن للبنان القبول بهذا النهج، بل على السلطات اللبنانية وضع السياسات الرديفة التي هي في مصلحة لبنان لإدارة إقامة النازحين بانتظار مغادرتهم لبنان وتحفيز وتسريع وتيرة عودتهم. كما عليها إعادة صياغة سياساتها المتعلقة بالوجود الكثيف للمسجّلين والمدوّنين على لوائح المفوّضية بما فيه الترتيبات اللوجستية لإدارة هذا الملف عبر مؤسسات الدولة بالتنسيق مع المفوّضية ومجموعة المانحين. وعليها كذلك ان تكون مصدر السياسات والقرارات، فيما الواقع أنه تَمّ تفويض سياسة إدارة الملف الى جهاتٍ خارجية ثنائية أو متعددة الأطراف تدعَم أكثر من مئتي منظمة غير حكومية تعمل بهامش تحرّك واسع تبعاً لأهداف مموّليها غيرَ مكترِثة بسلطة الدولة. وذلك النهج أثبت فشلَه في الحفاظ على مصلحة لبنان، ويجب تعديله. ويثير قيام المفوضية خلال الأشهر الماضية بخفض عدد المستفيدين من مساعداتها من ١،٣ مليون إلى ٨٠٠ ألف، مع تَوَقُّع استمرار الاتجاه الانحداري في مستوى التمويل، التساؤلَ حول مصادر العيش البديلة للذين أُسقِطوا من اللوائح، والخوفَ من وقع ذلك على سوق العمل في لبنان. مع التساؤل عما سيكون مصير الذين لَن يتأمَّن لهم إعادة توطين (تطبيقاً للاتفاقية بين الأمن العام والمفوّضية إبّان حرب العراق).
عن الإجراءات الأساسية لمقاربة ملف السوريين المقيمين في لبنان عبر تدابير يمكن للسلطات اللبنانية الشروع بتنفيذها داخل الحدود الوطنية بمساعدة المجتمع الدولي ودعمِه لِخططِها، يقترح الضاهر تكليف الأمن العام إجراء مسح وتسجيل جميع السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية بمساعدة من ترتئيه من المؤسسات الوطنية، نزع صفة "اللجوء" التي أضفتها المفوضية على النازحين المدرجين على قوائمها والذين يعبرون الحدود ذهاباً وإياباً إلى سوريا، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنهم بما فيها عدم السماح لهم بالعودة إلى لبنان مجدّداً، والسيطرة على دخول السوريين غير القانوني ومنعه، ترحيل السوريين الصادرة بحقِّهم أحكام قضائية لارتكابهم جرائم. أما الذين يخشون على سلامتهم، فيُعْهَد إلى المفوضية متابعة أمرِهم علماً بأن عدد السجناء ٢،٨٠٠، ما يُمَثِّل أكثرَ من ٣٠٪ من الموقوفين في سجون لبنان ويزيد من اكتِظاظِها.
ويقترح ايضاً إخضاع جميع المواطنين السوريّين غير المُدرَجين على قوائم المفوّضية، لقوانين الإقامة والعمل والممارسات التجارية في لبنان، والتأكّد من أنّ أنشطتهم لا تخلق منافسةً غيرَ عادلةٍ للعمّال وأرباب العمل اللبنانيين. وعلى لبنان إعادة تصويب سياستِه تجاه وجود النازحين إلى نهجٍ هدَفُه تقليص عددهم وعودتهم إلى سوريا، عوضاً عن نهجٍ يبغي زيادة المساعدات المالية، التي لا تَصِل سوى قطرات منها إلى المجتمعات اللبنانية المضيفة. وإيجاد الترتيبات اللوجستية والقانونية والأمنية المؤاتية لإدارة ملف المدوّنين لدى المفوّضية، تجميع ودمج المخيّمات المنتشرة عشوائياً ضمن بضعة مراكز منظّمة تُستحدث على مشاعات الدولة. ومن الأفضل إقامة المخيّمات على مقربة من الحدود السورية تسهيلاً للتنسيق الميداني مع السلطات السورية.
ويخلص الضاهر الى القول إنه لا يمكن أن يكون دمج النازحين في النسيج الوطني خياراً لأن نتيجته الحتمية ستكون تذويب الأقلِّية اللبنانية التي تتقلَّص يوماً بعد يوم ضمن أغلبية سورية تزداد دون هوادة. لِذا على لبنان المثابرة في مناشدة المجتمع الدولي متابعة تقديم المساعدات للعائدين وإن لم تلق صدىً حتى الآن. وفيما يجاهرالمجتمع الدولي بحرصِه على كيان لبنان واستقراره وأمنه، فإن موقفه الفعلي الذي تمليه علاقتُه المتأزّمة مع الحكومة السورية وعدم الثقة بها لحماية العائدين، ومصلحتُه في إبقاء النازحين في بلاد الجوار بعيداً عن حدوده وشواطئه، يتجاهل كلّياً ما قد يكون لاستمرار النزوح السوري الكثيف من ارتدادات وعواقب على لبنان، وعلى اقتصاده وبيئته، وتقويضٍ لاستقراره وتماسكِه الاجتماعي وسلمِه الأهلي، وفي المدى المنظور، تذويبٍ لهويَّته الوطنية.